الجمعة 2019/08/16

آخر تحديث: 11:25 (بيروت)

ليونيل روفيل: الأدب الجيد هو الذي يشغَل الموت

الجمعة 2019/08/16
ليونيل روفيل: الأدب الجيد هو الذي يشغَل الموت
increase حجم الخط decrease
يُفاجأ قارئ ليونيل روفيل بالإيمان، الذي عبّر عنه حيال الأدب في كتابه الجديد "مكر الموت" (فردييه*). وقد يستوي تفاجؤه في مقولة، مفادها ان ذلك الإيمان مردّه وظيفة صاحبه الأكاديمية، التي يمارسها، وبعبارته الدقيقة والمحقة، في "أجمل مكان في العالم"، أي في جامعة "باريس الثامنة".

إلا أن المتفاجئ نفسه يتذكر أنه ذات مرة كان شاهداً على تلك الممارسة، ومع أنه لم يلبث أن هجرها، لكنها بدت له أنها لا تمت بصِلة لصفتها الوظيفية، صفة "الأكاديمية". على العكس، تستند إليها من أجل استرداد مكانها منها، من أجل استرداد الجامعة، التي صارت، وكما أعلمنا كريستوف غرانجيه، حطاماً بحطام. بالتالي، يؤمن روفيل بالأدب كمواجهة للدمار، في الجامعة، طبعاً، لكن، وفي كل محل، ومن كل محل. ففي حسبانه، وهو حسبان جهاديي الإبداع، أن ذلك الدمار يتقدم كالسمّ، أما الأدب، فيشيع كالجرثومة.

صراع بين سم الدمار الذي يفتك بالجسد، أي جسد، والجرثومة التي تدافع عن هذا الجسد، عن أي جسد. وإن لم تنقذه، فعلى الأقل، لا تتيح التنكيل بجثمانه.

الركن الأساس لإيمان روفيل، أو لـ"قوله باللسان، واعتقاده بالقلب، وعمله بالجوراح" على اصطلاح إسلامي، هو، وببساطة، الظن في كون الأدب، وفي أصله، قد وُجد لكي يلهي الموت، يبعده، يخدعه، وبذلك يطيل الحياة وأمدها. ويقرن ظنّه هذا بأسطورته الشهيرة حول شهرزاد التي تروي لشهريار قصصها، مؤجِّلة موتها "ألف ليلة وليلة"، مستخلصاً أن الأدب، وبوصفه تخييلاً وسرداً، يخلق ما ليس موجوداً، وما لن يوجد ربما، من أجل حماية خلافهما من قتله، أي أنه خلق ضروري لكي تنجو المعمورات الإنسية من حتفٍ تداهم نفسها به. وهذا، بإرجاء حصوله، أو بصناعة الوقت قبل حصوله، والمضي الى إيقافه خلاله. فعندما يكون الأدب إشغالاً للحتف، يغدو، وحتى من دون أن يذكر روفيل ذلك، شرطاً وظرفاً للإنشغال بالحتف اياه، وهذا الانشغال يسمى في العادة تسييساً.

على هذا النحو، لا يكون الأدب تأليفاً لمنتج تخييلي، إنما هو خلق لمادة سردية. ثمة اختلاف بين الاثنين، اختلاف كبير للغاية. فالأول يأتي بعد الثانية، يجسدها. لكنها، في الغالب من الأحيان، تفلت منه، وعندها، يصير من دونها. تماماً، كما في حال الرواية، التي تُكتب بلا سرد. وهذا لا يعني أن لا حوادث فيها، بلى، فيها الكثير منها. لكنها ثابتة، لا تتقدم ولا تتراجع، وحينها تكون مشغولة بموتها، أو لموتها. المادة السردية هي التي تجعل المنتج التخييلي حاضراً بحسب قربه أو بعده منها، وطبعاً، في الحالتين، لا يستطيع تجسيدها بالكامل، لأنها تنمّ عن غير ما ينمّ. إذ تصدر عن ضرورة في حين أنه يصدر عن شيء آخر، وهو تقريباً، إرادة وإعلان بأن الضرورة انتهت. لكن الضرورة، وإن كانت تخلق مادة سردية، لا ينهيها منتج تخييلي، بل يتممها، وباختصار، هو إيقاف الموت.

لكي يبقى الأدب إشغالاً للموت، واتاحة للانشغال به، فلا مناص له، لا أن يبحث في منتجه التخييلي فحسب، بل أن يبدل غرضه الأوّلي أيضاً، أي الكتاب. فإيمان روفيل بالأدب هو أيضاً ايمان بكتاب آخر، لا يكون مطابقاً للكتاب مثلما حدده كانط حين طرح سؤاله عنه، بل مخالفاً له، أو بالأحرى ينتسب إلى نهاية القرن الثامن عشر: حين كان توحشياً، ولم تروضه بعد تلك العلاقة التي رست بين الكاتب والجمهور عبر الناشر، تلك العلاقة التي تؤدي إلى إنتاج طائفة المواطنين-المستهلكين. في هذا السياق، يدرك روفيل أن الكتاب، ومثلما قوننه كانط، انفجر، وتناثر بانتشاره في كل حدب وصوب. ولهذا، الكتاب الآخر، وبحلوله، قد يجمع أشلاءه، يواريه الثرى، وعندها، قد يطلق منه ذلك الأدب الذي كان معتقلاً فيه.

تحمل قراءة ليونيل روفيل على الاستنتاج بأن الأدب الراهن هو أدب مشغول بموته، يشغله موته، بحيث أن أي مادة سردية تدخله، يُجهز عليها، ويجعلها منتجاً تخييلياً. هكذا كان الأمر بعد دفع السوريين إلى تحويل ما حدث معهم- وهذا من علامات عجز العالم وتلاشي خرافته- إلى مادة سردية. كان من المفترض أن تشغل الموت عنهم، وتتيح التخلص منه، وبالتالي نجاتهم. لكنها، حين أُدخلت إلى ماكينة ذلك الأدب، صارت منتجاً تخييلياً، وأُطيح واقعها، أطيح كونها ليست مجرد روايات تُسلّي متلقيها، أو تشغله بموتهم عن ميتته. فالأدب الراهن سافل فعلاً، والإيمان بأدب مفارق له لا يمكن سوى أن يترافق مع الانتهاء منه.

(*) ويصحّ أيضاً، ماكر الموت.
Trompe-la-mort, Lionel Ruffel, éd. Verdier. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها