الإثنين 2019/08/12

آخر تحديث: 11:25 (بيروت)

الظَّهر الموضة: ستر الاجتماع وإيروتيك السينما

الإثنين 2019/08/12
increase حجم الخط decrease
لزوار مدينة باريس، هذه الأيام، أن يخصصوا القليل من وقتهم للذهاب الى متحف "بورديل"، حيث يُقدم معرض، لا يمكن وصفه سوى بالفريد. فمن عنوانه، "كفل: دَرَجان الظَّهر"(*)، يتناول المعرض التاريخ الارتدائي او الأزيائي للظَّهر، بمعنى حلوله في تصاميم الثياب، لا سيما النسائية منها، محاولاً الإحاطة به، ليس بطريقة خطية، إنما بالانطلاق من لحظات تحوله الأساس. فلم يكن الظَّهر، على الدوام، بارزاً في تلك التصاميم، بل إنه غالباً ما كان يطل فيها، ثم يتوارى، وهذا، بحسب موقعه من معانيها.


ففي القرن الثالث عشر، وحين كان الفستان يغطي ظَهر السيدة، وينزل منه إلى الاسفل، ويمتد، كان طوله يشير إلى انتمائها في التراتبية الاجتماعية داخل المملكة، أكانت أميرة، أو بارونة. مع الزمن، بدأ غطاء الظهر يتقلص، وقد ظهرت له، في نهاية القرون الوسطى، فتحة، ليس في وسطه طبعا، بل أعلاه، أي حول العنق والكتفين. لكن، إذا بدا منه أوّله، أو ما يُشبه أوّله، فقد ظل مستوراً حتى مشارف الثورة الفرنسية، حيث بدأت غرته، أسفل العنق والكتفين، بالبروز، وهذا، لسبب محدد، وهو أنها تتيح للملبس أن يجلي الثديين، ويقدمهما كمركز له.

وبعد الثورة، بقيت غرة الظهر على بروزها، لكنها فعلياً تهمشت. وهذا لا علاقة له سوى بأن الملبس آنذاك صار يتمحور حول طياته المتكاثرة والمتداخلة على اختلاف أنواع الأقمشة، الذي، وفي احيان عديدة، ترافقه زينة ريشية. غير ان تهميش الظَّهر اتضح في الملابس الداخلية، لا سيما عبر ما يُعرف بالكورسيه، أي الثوب الذي يشد الجسم، وينحله، لاجماً اكتنازه. انتهى هذا التهميش في نهاية القرن التاسع عشر تقريباً، حينما لم يعد الظهر مستوراً، أو مبدى لصالح غيره. فبرز الثلث الأول من عموده الفقري، ولم يستحوذ عندها على معنى ايروتيكي، بل بقي طاهراً منه، إذ برز بمفرده، أو على حدة من وقع الثوب.

هذا ما سيتغير في القرن العشرين، حينما بدأت السينما تلعب دوراً في جعل الظهر إيروتيكيا. وفي هذه الجهة، لا بد من تذكر ظَهر ميراي دارك في مشهد من فيلم le grand blond avec une chaussure noire، الذي تبرزه أمام بيار ريشار، ليساوي في السينما ما تساويه في الرسم لوحة غالا، التي رسمها دالي عارية الظهر. بعد ذلك، غدا الظهر موضوعاً تصميميا بإمتياز، ليس كحيز بقدرة ايروتيكية فحسب، بل بقدرته على حمل رسائل من الجسد كله أيضاً. فهو استعارة تحمُّل الجسد للأعباء، كما في تصميم ريك اونز، الذي وضع سترة على ظهر أخرى. أو أنه جداره، تُكتب فيه شعارات، كما في سترة كاكي زارا، التي كتب فيها "أنا فعلياً لا أهتم، وأنت؟". كما أن الراحل إيف سان لوران، وعندما يبرزه، فذلك، عبر تخريمه، ليجعله محط عين، وفي الوقت نفسه، يصونه منها. فهو، مثلما صمّمه، مخبأ الجسد، أو بابه، الذي، حين يجتازه، يقيم في خصوصيته، ولا يمكن لأحد أن يصل إليه. وتشترك الشهيرة إلزا شيابيريلي، في تصور سان لوران هذا، نوعاً ما، فبحسب تصميمها، على الظَّهر أن يكون مقصد الجسد، مقصد ملبسه، حيث لا ينتهي، بل يسكن.



لا شك أن المعرض نجح في تأريخ بانورامي للظَّهر. لكن الأهم من ذلك، أنه عرف كيف يقدمه مقاماً لراحة الجسد، لراحته من انشغاله بوجهه في زمن صور "السيلفي"، ومن ملبسه أيضا. كما أنه قدمه كصائنه، فما إن يدير الجسد ظهره، حتى يستطيع أن يمضي، أن يولّي، وبهذا يعطيه لغيره، الذي لا يمكن لأحد سواه أن يراه، واضعاً اياه، وعلى كليشيه "ليفانيسينة" (نسبة إلى ليفيناس)، أمام مسؤولية بعينها. وهي ألا يلحق به الأذى من ورائه، ألا يُطعن غدراً، ألا يُطعن في ظهره، وهو غدْره، بمعنى المكان الذي لا يُنفذ إليه. 

فالظهر يبعث شعوراً غريباً في من يراه، لأنه يجده مكشوفاً، وفي الوقت نفسه، لا يمكنه أن يذهب نحوه لأن صاحبه لا يراه. شعور بأن الظَّهر ليس من الجسد، ومع ذلك، لا يمكن التقدم منه بلا المرور بحامله. ربما، على هذا النحو، يصح الاعتقاد بأن ما يقوله الأغيار لنا، لكي نصير أغيارهم، أنهم رأوا ظُهورَنا، ويريدونها. وأياً كان ردّنا عليهم، فسنقول لهم بأن ظهورنا تلك هي لنا. وهكذا، نوقف واياهم جريمة محتملة من قبلهم بحقنا. وهكذا، يحل اجتماع محتمل بيننا مكانها. نوقفها، وعلى الكليشيه اياها، بوجوهنا؟ ربما، لكن هذا يقتضي من الوجوه أن تربط الجسد بالظَّهر، والعكس، لا أن تفكهما وتلتهمها.

(*) Back side, dos à la mode, Musée Bourdelle, 18 rue Antoine Bourdelle (مستمر حتى 17 تشرين الثاني/نمفمبر 2019). 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها