الإثنين 2019/07/29

آخر تحديث: 15:02 (بيروت)

ممالك سوريا المنسية

الإثنين 2019/07/29
increase حجم الخط decrease
أدّت الحرب المتواصلة في سوريا إلى خراب عدد كبير من المواقع الأثرية، ودفع هذا الواقع الأليم إلى إعداد معارض خاصة بهذا الإرث الحضاري في المتاحف العالمية. يحلّ آخر هذه المعارض في متحف اللوفر الفرنسي، ويأتي تحت عنوان "ممالك منسية"، وفيه نتعرّف على سلسلة من المواقع الأثرية تعود إلى حقب تاريخية تمتد من عهد الإمبراطورية الحيثية إلى عهد الممالك الأرامية التي ورثتها.

سمع العالم بالحيثيين من خلال أسفار التوراة، غير أنه لم يتعرّف على تاريخهم إلا مع نشوء علم الآثار في العصر الحديث. في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، اكتشف المنقّبون نقوشاً في مدينة أثرية تقع على الضفة الغربية من أعالي الفرات، في الشمال الغربي من بلاد النهرين، وتُعرف باسم كركميش، وهي اليوم مدينة جرابلس التي تبعد 125 كم شمال شرق مدينة حلب، وتقع في أقصى شمال سوريا. هكذا، خرجت من ظلمة التاريخ إمبراطورية شرقية عظيمة ثالثة برزت إلى جانب إمبراطوريتي وادي النيل ووادي الدجلة والفرات، وهي الإمبراطورية الحيثية التي ازدهرت في آسيا الصغرى على مدى عدة قرون.

بدأ صعود الحيثيون في آسيا الصغرى مع بداية الألف الثاني قبل الميلاد، والأرجح أنهم شعب هندي أوروبي قديم، نشأ في المنطقة الواقعة وراء البحر الأسود، واستقرّ في مقاطعة حاتي التي جاءت منها تسميته، واتخذ من مدينة حاتوساس عاصمة لإمبراطوريته، وهي في زمننا مدينة بوغاز كوي التي تقع عند منحنى نهر هاليس، وتبعد مئة وثمانين كيلومتراً من أنقرة. خرج الحيثيون من الأناضول، وسيطروا على شمال سوريا، ثم أسقطوا أسرة حمورابي العمورية في بابل، ودخلوا في مواجهة مفتوحة مع المصريين. وتبدّلت احوالهم مع مرور الزمن، وظهرت على إمبراطورتيهم علامات الوهن، غير أنهم عادوا وأسسوا مملكة جديدة شكّلت مركز القوة والثقافة في غرب آسيا، وبسطوا نفوذهم على معظم آسيا الصغرى ودول شمال سوريا ووسطها، الا ان هذه المملكة تضعضعت بدورها، وتحوّلت إلى دويلات عُرفت باسم "الممالك الحيثية الجديدة"، وكانت كركميش أهم هذه الممالك، وقد ضمّت حلب وحماة، وحافظت على شكل من الاستقلال الذاتي إلى أن جعل منها سرجون الثاني مقاطعة آشورية في القرن الثامن قبل الميلاد.

تبنّى الحيثيون لغة بلاد بابل الأكاديَّة المكتوبة بالخط المسماري في مراسلاتهم الدولية، واستخدموا في كتاباتهم الملكية والدينية لغتهم المسجلة بالكتابة الهيروغليفية الحيثية المستعارة من بلاد مابين النهرين. وبنوا حضارة تميزت بطابعها التعدّدي، وعكس هذا الطابع تأثرهم بفنون وآداب الشعوب المجاورة. ظلت هذه الحضارة حية بعد أفول ألإمبراطورية الحيثية، وطبعت نتاج "الممالك المنسية" التي ورثتها.

يسلّط معرض اللوفر الضوء على آثار كركميش التي تُعرف اليوم باسم جرابلس، وتُعتبر بوابة بلاد الشام إلى الأناضول إلى وبوابة الأناضول إلى بلاد الرافدين. كما يسلّط الضوء على آثار مدينة ملطية الفراتية في شرق الأناضول. تقود هذه الرحلة إلى موقع تل برسيب الذي يُعرف باسم تل أحمر في شمال سوريا الحالية، ويُبعد نحو عشرين كيلومتر جنوبي كركميش، وتنتقل منه إلى مواقع أثرية أخرى، منها موقع تل طعينات المجاور لإنطاكيا، وهو قديما مدينة كونولوا.

يشكّل موقع تل حرف مركز الثقل في هذا المعرض الكبير. يقع هذا التل في غربي مدينة رأس العين، شرق شمال سوريا، في منطقة ينابيع نهر الخابور، ويتميّز بثراه الاستثنائي. اكتشف الدبلوماسي الألماني البارون ماكس فون أوبنهايم هذا الموقع في نهاية القرن التاسع عشر، قبل سقوط الإمبراطورية العثمانية، وذلك عند مسح المنطقة استعدادا لبناء سكة حديد بغداد، وعاد للتنقيب فيه بين عامي 1911 و 1913. بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، عاد البارون من جديد إلى الموقع في سنة 1927، وقاد فيه حملة تنقيب واسعة في ظل الحكم الفرنسي، وأودع مجموعة من مكتشفاته في متحف صغير أنشئ في حلب، وحمل معه إلى برلين مجموعة أخرى من هذه المكتشفات، وحفظها في مصنع مهجور في شارلوتنبورغ، ثمّ جعل من هذا المستودع متحفا مستحدثا افتتح في 15 تموز/يوليو 1930، وحمل اسم تل حرف.

خلال الحرب العالمية الثانية، تعرّض هذا المتحف للقصف في تشرين الثاني/نومبر 1943، ودمّر بشكل كامل، وقيل يومها أن هذه الحادثة تمثّل إحدى أكبر الخسائر التي عرفتها آثار الشرق الأدنى. من أنقاض متحف تل حرف، تمّ اخراج ثمانين متر مكعب من شظايا المنحوتات والتماثيل البازلتية الضخمة، وجرى تخزينها في أقبية متحف بيرغامون. بعد مرور سنوات عديدة، أُخرجت هذه الشظايا التي بلغ عددها أكثر من 27000 قطعة، وبدأ العمل على ترميم ما تبقّى من آثار تل حرف في العام 2000، وخلال عشر سنوات، أعيد اعمار زهاء مئة قطعة من التحف التالفة.

تختزل آثار تل حرف تاريخ الفنون الحيثية، وتمثل الامتداد الآرامي لهذه الفنون. حمل التل اسم مدينة غوزانا في القرن العاشر قبل الميلاد حيث استقرّ فيه الملك الأرامي كابارا، وبنى قصرا زُيّن بالتماثيل الكبيرة، وفقا للأسلوب "الحثي الجديد". بعدها، حافظت المدينة الآرامية على شيء من الاستقلال الذاتي، ثم تحوّلت في رحلة تالية إلى محافظة تابعة للإمبراطورية الأشورية. واليوم، يحيي متحف اللوفر هذا الموقع، ويتّخذ منه منبرا للدعوة إلى انقاذ آثار سوريا المهدّدة بالضياع. إلى جانب عدد كبير من الآثار التي أحياها الخبراء الألمان بعد أن تعرّضت للتلف، تحضر في مدخل المعرض لوحة تشكيلية حديثة يحاكي فيها الفنان التشكيلي اللبناني ريان تابت قصة اكتشاف موقع تل حرف وضياع مكتشفاته التي حملها البارون ماكس فون أوبنهايم إلى برلين.

تجدر الإشارة أن ريّان تابت خصّص لهذه الواقعة معرضا تشكيليا أقيم في بيروت في العام الفائت تحت عنوان "فتات". تضمّن هذا المعرص صورا شخصية لجد الفنان فائق بُرخُش، إضافة إلى رسائل خاصّة وحقيبة توثّق إقامته لمدّة ستة أشهر في موقع تل حرف عام 1929، وذلك بعد أن عيّنته السلطات في منصب أمين سرّ البارون الألماني الذي اكتشف الموقع. سعى الفنان إلى إحياء متحف دير تل حرف الذي تفتّتت مقتنياته جراء تعضه للقصف الصاروخي، ووثّق نقوش 24 لوحا حجريا من أصل 194 لوحاً حجرياً عثر عليها أوبنهايم عام 1911. ورفع لائحة متحفيّة كاملة بهذه الألواح تضمّ ما ضاع وما بقي منها، مع ما توفّر من معلومات عنها وعن حالاتها. تكرّرت عبارة "ضائع" في سير هذه الألواح، وشهد هذا التكرار لفداحة هذه الخسارة.

في الخلاصة، يستعيد متحف اللوفر تاريخ هذه المدن الفراتية المنسية التي تجسّد الشراكة الأناضولية السورية، ويدعو إلى إنقاذ آثارها من نيران الحرب، مذكرا بأمثولة تل حرف في الماضي القريب.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها