الجمعة 2019/07/26

آخر تحديث: 12:41 (بيروت)

"مقامة" نواف الموسوي العابرة

الجمعة 2019/07/26
"مقامة" نواف الموسوي العابرة
نواف الموسوي امام مجلس النواب (المدن)
increase حجم الخط decrease
حبكت أخبار الحوادث المتواترة عن مطاردة طليق شاب طليقته، وابنتيهما من زواجهما المنصرم وأخت الطليقة، على طريق الدامور، بسيارته، وتعريضه حياة "النساء" الأربع وربما حياته كذلك، لخطر حادث مميت، ثم التجاء المرأة إلى مخفر الدامور وتسجيلها الحادثة وإدعائها على مطاردها، وإبلاغها والدها بالواقعة واستغاثتها به، وإسراعه إلى نجدتها ومعه مرافقون مسلحون من أقربائه واقتحامه المخفر، وإطلاق أهل النجدة النار على الطليق وإصابته- حبكت هذه الأخبار، وتعريف الضالعين فيها وسوابقهم، "رواية" تتضاءل بإزائها وتهزل إلى حد الذواء الروايات الأدبية التي يكتبها روائيون محترفون يزعمون أن "هذه ليست رواية"، وسيناريوهات المسلسلات الرمضانية وغير الرمضانية، التركية واللبنانية والمصرية والسورية، التي تصور أحوال العصابات والعائلات والخيانات والتجارات والصفقات في الحارات والأرياف وعلى الأوتوسترادات، على نحو مصطنع بطيء ومفكك.

ولا تقتصر هذه "الرواية" على وصل أحوال الحاضر بأحوال الماضي القريب فالأبعد، وعلى شبك الأشخاص بدوائر ومراتب اجتماعية وسيساسية وبأدوار يتولونها ويؤدونها على مسارح عامة وخاصة، مرئية ومستترة، ولا على جمع الأضداد فيهم: فهم أحباب البارحة وأعداء اليوم، وأصهار الأمس والمتربصون موتاً وقتلاً بعضهم ببعض. وهم كانوا أزواجاً وآباء وزوجات وبنات فإذا بهم يخرجون من عباءة النسب والصلب والدم إلى طلب تحكيم القانون المجرد والقوة العامة المسلحة ثم القوة العائلية. وكانت رابطة الولاء والمعتقد تجمع "السيد" والأديب الجنوبي وابن "العشيرة" البقاعي "البعلبكي"، كالبنيان المرصوص، وها هي تحمل الشاب على الإزدراء بـ"عمه" وأحد وجوه حزبه. وتحمل العم، والد الزوجة من قبل، على التعصب على صهره السابق والكر عليه بسلاح أقربائه.


القاصر

 وما كان يُفترض ويحتسب جسماً واحداً، ولا تميز أجزاؤه وخلاياه تحزبها السياسي من دينها وإيمانها، ومصالحها وميولها من أخلاقها، وأفكارها من أحاسيسيها- فهي على زعمها صبت صباً واحداً على خلاف البشر المنقسمين على أنفسهم بين السياسة والدين، وبين الشرق والغرب، وبين المادة والروح، وبين انعطاف الرحم والواجب القاهر...-، فإذا به يتناثر ويتفتت. فالطليق الشاب يستقوي بوكالة أبيه عن بعض أكابر الدين والدنيا على من كانت زوجه ولم تنفك والدة بنته وابنه- ويخوله تطليقه السخرية الفاحشة ممن كان يتصدر مجلس جماعته وجماعة أبيه، ويهدد باسمها وينتخي ببندقيتها وأفضالها على الحلفاء. ومن كان ينتخي من مجلس النواب ومدرجاته ناحية عليا، هو وأحد زملائه، ويقطع كلام الخطباء مندداً بهم وبآبائهم وأعمامهم، ويوجب تاريخاً للـ"بلد" يقدم "أبطالاً" على موظفين متواضعين تسمى بأسمائهم حوادث صغيرة (مثل الاستقلال) تتستر على حوادث عظيمة يسبر هو غورها كمهاجمة الجنود الفرنسيين- من كان هذا شأنه "يقر" بأن الأب، والد الطليقة الشابة والمحرومة "شرعاً" من حضانة طفليها وزيارتهما، قاصر عن إحقاق حق بنته. ولا تسعفه نيابته عن "الشعب اللبناني"، وهو ندبه حزبه المنصور إليها وإلى الاضطلاع بأعباء الولاية أو السيادة "الوطنية" المترتبة عليها، تسعفه على نجدة ابنته قانوناً.


 وتصل "الرواية" مسارح (حوادث) كثيرة قلما يسع الروايات الأدبية والسينمائية والتلفزيونية وصلها وتوليفها على هذا المثال. فمن بيت المدينة إلى بيت البلدة أو الضيعة، ومن الطريق السريعة (الأوتوستراد) إلى مخفر المدينة الوسيطة، ومن المجلس النيابي أو صفته إلى مركز الحزب أو مجلس شوراه، ومن شاشات الآيفونات إلى شاشات "الواتس آب"، ومن المواقع والمدونات والوكالات الى المستشفيات وعيادات العلاج من المرض العضال والجروح الجديدة، ومن محاكم الشرع الجعفري إلى الحسينيات ومنابر العزاء والتكريم- نسجت الرواية خيوطاً متشابكة، ورسمت وجوهاً وأجساداً حية وصورت الحياة في الحياة بألوانها كلها.


المعاصَرة

 ولم تبخل "الرواية"، بواسطة شاشات الهواتف الذكية ودوائر بثها المباشر، من صحبة الحادث جزءاً من ثانية بعد جزء من ثانية، وإشهاد الملأ الشبكي (الانترنتي) الواسع على فصول الواقعة، أو دمج الفعل فيما يروي وتوحيد زمنيهما وهي تترى. ومعاصرة فعل الرواية المرويات التي يقصها، أو دمج الفعل فيما يروي وتوحيد زمنيهما هي (المعاصرة، الدمج، التوحيد) غاية عصية، وراودت عبثاً رغبة أنطونان آرتو، الشاعر الكبير و"القتيل"، في إحياء قدس الشعائر القديمة، وإرادة أريان منوشكين، مخرجة المسرح الكبيرة، وصل الخشبات وشخوصها بالصالة وجمهورها.

والحوادث والرواية وتداولها وشهودها، وأصداؤها والتعليقات التي تلتها ولا تزال تتردد خافتة في الأحاديث والمحاورات، على رغم قطع الاستقالة الضاجة بصمت حزبي لا يشبه خطابة الحزب المعتادة والثرثارة- هذه كلها دعت لبنانيين وربما عرباً كثيرين إلى صياغة "حزبهم" المتسلط، المذهبي الأهلي والعسكري السياسي، من طريق الحادثة العتيدة وبواسطتهاعلى شاكلة تخالف شكل الحزب المعروف. فرآه بعضهم، على صورة الوالد المفجوع والمتنازع بين "قناعه" ("بيرسونا"، ومنها "بيرسوناج"، الشخصية المسرحية أو العامة)  الحزبي والمقاتل وبين ألمه (على رغم أحكام الشرع) على أرحامه، حزباً يضوي بشراً لم يخلقوا "لأجل السبت"، على قول متى في أنجيله نقلاً عن ابن الانسان، ابن مريم، بل خلق السبت وأحكامه وفقهه "لأجل الانسان".

ولا شك في أن المضي على حمل هذا العبء، عبء الاختلاف بين السبت وبين الانسان، ثقيل على كاهل مجاهد من هذا الصنف. وقد يكون ما ارتكبه المجاهد من "انحراف"، واللفظة من منتخبات اللغة اللينينية - الستالينية والماوية من بعدها، ثمرة سعي حزبه المسلح في مراعاة أحوال المجتمع الذي خرج من صفوفه ثم ارتد عليه. وقادته مراعاته إلى إنشاء شريحة من الوجهاء الجدد، نواب ووزراء ورؤساء بلديات وأعضاء مجالس بلدية واختيارية وأعضاء نقابات مهنية وموظفي مرافق مدنية وصحافيين، يتولون الوساطة بين عالم جمهور الناس وعامتهم وبين "عالم" النواة والصفوة. ويميل آحاد هذه الشريحة إلى محاكاة أحكام الجمهور والعامة. وقد ينسلخون، أو ينسلخ بعضهم، من الطوق المتخيل والهوامي الذي تضربه الصفوة على نفسها، ويخلو فيه الحاج رضوان (عماد مغنية) بالحاج ذو الفقار (مصطفى بدرالدين) وبجنرالات فيلق القدس، وتتناسل الأفكار والأهواء المنفلتة والمدمرة، وأولها "عشق الشهادة" والموت، داخلها.


الدائرة الأرفع

فمثال "المقاوم المجاهد الذي يصيبه هذا الصنف من الحركات، وحَدُّه الذي ينزع إليه هو الشهيد أو الاستشهادي الانغماسي فعلاً أو احتمالاً (في سير بعض المقاتلين الذين قضوا في سوريا ينبه الحزب الناعي إلى أن المقاتل كان في عداد من تدربوا على اجتياح مستوطنات الجليل، وتحسب له نيته أو عزيمته جزءاً من سيرته)- مثال المجاهد المقاوم هذا هو من تخطى الفروق بين دوائر الحياة والعمل. فلا فرق عنده بين دائرة السياسة وبين دائرة المعاملات الاجتماعية الأوسع. وانتفاء الفروق معناه ومؤداه إلحاق كل الدوائر بدائرة عليا وجامعة هي "الجهاد" أو "المقاومة" أو "الاسلام". ومن "ذاب" (محمد باقر الصدر) في هذه الدائرة، وفي إمامها والعلم عليها (المرشد أو القائد أو ولي الأمر الشرعي أو الرابط الميداني)، وأطاع هذا، فلا جناح عليه من بعدها.

ويترتب على الأصل الجامع هذا، الديني والسياسي والأخلاقي والجمالي والحقوقي والعام والجزئي معاً، نفي النزاع من الفروع أو الدوائر وبينها. فما يمليه الجهاد لا يتصور ألا يكون أخلاقياً ولو كان كذباً وعدواناً وجهلاً. فالحرب خدعة، والحرب قائمة إلى حين حسمها عن يد صاحب الجيوش المُعلمة والآتية من الشرق. وما يمليه الشرع لا ينبغي أن تقيده أهواء الأبوة أو الأمومة أو الاخوة أو البنوة أو الصداقة أو المواطنة المزعومة والقانون الوضعي. ومقالة ألبير كامو في تقديمه أمه (المستوطنة الفرنسية في الجزائر المستعمرة) على العدالة (أي حق الجزائريين في الاستقلال)، في معرض الجهاد والمقاومة، ترف غربي كاذب. وقاتل "المستكبر" أو راميه، أو ضاربه بعصا على رأسه (أبو بكر ناجي، صاحب إدارة التوحش)، مناضل وسجين سياسي أو سجين رأي في الاحوال كلها. وسجانوه، بعد المحاكمات القانونية كلها ودفوع كبار المحامين عنه، قتلة ومصاصو دماء وظَلَمة وقراصنة... إلى قيام الساعة.

 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها