الخميس 2019/07/25

آخر تحديث: 18:10 (بيروت)

"لبنان القوي" لا يفاوض

الخميس 2019/07/25
"لبنان القوي" لا يفاوض
رئيس المركز الكاثوليكي للإعلام، عبدو أبو كسم: "اعتذارهم يثبت أننا لم نتجنّ على أحد"
increase حجم الخط decrease
حُلّت المسألة إذاً. حفلة "مشروع ليلى" ضمن "مهرجانات بيبلوس" باقية في موعدها، على أن تعقد الفرقة مؤتمراً صحافياً خلال الأيام المقبلة، تعتذر خلاله ممّن "أساءت إلى مشاعرهم الدينية"، إضافة إلى محو المنشورات الجدلية من وسائل التواصل الاجتماعي، وحذف أغنيتين من برنامج الحفلة ومن قناة الفرقة في "يوتيوب". حلّ جاء بعد "نقاش" مستفيض بين إدارة المهرجانات وأعضاء الفرقة والكنيسة المارونية، وبعد تحقيق أجرته مديرية أمن الدولة مع أعضاء في "مشروع ليلى". فما الذي يقوله، فعلياً، هذا الخبر، للبنانيين؟

أولاً، إن حيز التفاوض على المسائل القِيميَّة في لبنان معدوم، لا سيما المسائل المتعلقة بالحريات والهوية والثقافة. إذ يفترض بهذا الحيز أن يكون أرضاً محايدة، تُدعى إليها أطراف الخلاف، من المؤمنين وغير المؤمنين، من الكنيسة والفرقة والمجتمع المدني، والحَكَم فيها يتمتّع بسُلطة مقبولة لدى الجميع، لأنها ممنوحة له من الجميع بموجب الدستور بالدرجة الأولى، وهو حَكَم مسافته واحدة من الجميع على أساس المواطَنة والقانون الذي يُعتبر الفيصل في النهاية. ومن نافل القول أن السُلطة هذه يفترض أن تكون الدولة، ومن نافل القول أيضاً أن "أمن الدولة" مديرية لا تختزل الدولة، ولا حتى تمثّلها.. فكيف إن خرج منها أعضاء الفرقة إلى مطرانية جبيل؟

لكنه لبنان الذي تتضح معالم "قوته"، يوماً بعد يوم. وما حصل أن أقوياء العهد، استدعوا "أولاداً" ارتكبوا "خطأ"، لتقريعهم وإعادتهم إلى صوابهم، بكل محبة.. وأبويّة. والحلّ خرج من بيت الطرف الأقوى، بمَقَرّيه السياسيَين: الطائفي والأمني. لا رأي عاماً لبنانياً مدعوّاً للمشاركة في النقاش المفضي إلى حل أو خلاصة، إلا ما انتمى منه إلى الطرف ذي الباع. أما البقية، فلها البيانات والتصاريح وفشة الخلق إعلامياً.

ثانياً، بات مسلّماً به تقسيمُ الأجهزة والمؤسسات اللبنانية، سياسياً وطائفياً. قد يقول قائل إن الأمر ليس بجديد، وأن هذه تركيبة لبنان وهذا نظامه منذ الاستقلال. لكن الحقيقة أن "لبنان القوي" استطاع أن يكرّس سماته الخاصة. ومنها، كما تبدّى في قضية الممثل زياد عيتاني، أن قضايا المسلمين تُناط بقوى الأمن الداخلي المحسوبة على رئاسة الحكومة، وقضايا المسيحيين بمديرية أمن الدولة المحسوبة على رئاسة الجمهورية.

ولا يُنسى أن المؤسسة القضائية أيضاً "قوية" بالتقسيمات المريحة ذاتها، وليهتمّ كل راعٍ بقطيعه، والقطيع قد يكون أيضاً قضايا وآلهة وأفكاراً. من هذا المنطلق، يمكن للراعي(ة) إظهار تقدمية، شرط عدم خرق المنظومة البطريركية، ولو استلهمت "أمومتها" في محاكمة القاصرين. ونذكر، العام الماضي، عندما حكمت قاضية مسيحية، على ثلاثة شبان مسلمين دخلوا كنيسة وأساؤوا لتمثال السيدة العذراء، بحفظ سورة "آل عمران" القرآنية، ولُقّبت بقاضية التسامح. ذلك أن المُسلم، في أجواء المحبة الوصائية، الأبوية/الأمومية، المفطورة على وضع كلّ "مواطن" في "مكانه"، يجب أن ينطلق في رؤيته للآخر، من قرآنه، وليس من حقوقه وواجباته التي تساويه بمواطنيه أمام القانون. والعكس – طائفياً – صحيح.

ثالثاً، كلّما تصاعد نقاش عام في عنوان مختلف عن المعتاد في السجال السياسي اللبناني الأمني والصلاحياتي والمحاصصاتي، ليبرز عنوان ثقافي أو بيئي أو حقوقي أو حرياتي يشغل البلد تفكيراً وجدلاً وأبداءً للرأي، تبيّن في النهاية أن له مصيرَين لا ثالث لهما: إما الموت السريري – بعد فَورة – بين ثنايا السوشال ميديا... أو اللفلفة بالآليات نفسها التي تُقارَب بها النزاعات السياسية المألوفة، وعبر القنوات ذاتها. وذلك بدلالة قضية غدير نواف الموسوي، وقبلها عشرات القضايا، حتى تلك التي شُبّه لنا أنها عابرة للطوائف والطبقات الاجتماعية، وأن المجتمع المدني ممثَّل في دوائر صناعة القرارات بشأنها، كما في حالة أزمة النفايات التي لا تزال مستفحلة منذ أربعة أعوام على الأقل.

رابعاً، المجتمع المدني اللبناني، بناشطيه الأفراد والمؤطرين، ورغم مشاكل شتى يعانيها، يبدي حيوية وغنى، على الأقل على مستوى تفريع أساليب التعبير عن رفض القمع (كإعادة مشاركة الأغنيتين المحذوفتين من "يوتيوب" تأكيداً على تحدّي الرقابة وعلى أننا في عصر لا جدوى فيه من منع أي شيء). إضافة إلى تفريع النقاش في مسالك لافتة، خصوصاً الجدل المستمر الآن تحت عنوان "لا للاعتذار"، وما إذا كان يصحّ الإملاء على "مشروع ليلى" بما يجب فعله تحت طائلة تحول الدعم لقضية الفرقة إلى موقف ضدها إن "تخاذلت". إذ ثمة من يرى أنه، في بلد مثل لبنان، عندما يكون هناك طرف يُهدَّد ويتم التنمُّر عليه، وربما يُساق إلى المحاكم أو تكون سلامته الشخصية في خطر، فلا يجوز أن يُطلب منه ما هو فوق طاقته. ويبدو التفاعل ههنا صحّياً بين العقلنة والحماسة الكاملة للحرية باعتبارها المقدس الوحيد.

وهي الحرية التي، في حد ذاتها، نوقشت وفُصّلت، وأعيد الكلام في بديهياتها، أي إن كانت تنتهي عندما "تسيء" للآخرين، وما مفهوم الإساءة، وما مفهوم الآخرين.. واستعادة البديهيات، أحياناً، تمرين مفيد قد يحلم واحدنا بأن يطاول مفهومَي "العهد" و"القوي" ذات يوم قريب.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها