الأربعاء 2019/07/24

آخر تحديث: 13:33 (بيروت)

كاتبُ الإسترحامات

الأربعاء 2019/07/24
كاتبُ الإسترحامات
increase حجم الخط decrease
لم نعد نكتبُ رسائل ورقيّة، ورسائلنا الإلكترونية تحوّلت إلى رموز. صناديق الرسائل التي أحتفظُ بها، رغم كل محاولاتي للتخلص مما أعتقدته غير مهم، وندمت في ما بعد عليه، رغم كل ثورات غضبي وتمزيقي لرسائل الآخر وصوره، محاولة محوه من بيتي وذاكرتي، وندمي الشديد بعد ذلك.

في العالم الذي عشتُه، تُخبِر الرسائل التي كتبتها عن بعض حياتي وتعكسُ صورةً واقعية، ومعبّراً عن بعضها بخط اليد، على الأغلب – كيف اختُصر هذا العالم؟ كنّا في البداية نسعى إلى حفظ الرسائل الالكترونية، أو طباعتها، لكن هذا الإنهمام تضاءل في الفترة الأخيرة، حتى تلاشى تقريباً، أو لم أعد أعتمده شخصياً.. وأصبحت الرسالة الشخصية نادرة، الورقية خصوصاً، لم أعُد أتلهف يومياً وأنا أفتحُ صندوق البريد، بل لم أعُد أفتحه إلا مرة خلال الأسبوع أو أكثر... لكني الآن أواظب جالساً أمام الإنترنت، منتظراً أن تلوحَ رسالةٌ ما، لكن الإنترنت يجلب لك كلَّ القطل الممكن، وعليك إزاحته حتى تحظى بشربة ماء، يُمكن تذوّقها! فرحهُ مختلف وطريقتُه كذلك.

حينما تفقد الأمل، أو تضيع عليك البوصلة، تجلسُ لتكتب إلى صديق ما، رسالةً، تسحبُ خيطَ الأفكار وتأخذ تحوكها وكأن في يدك وشيعة، رسائل طويلة كنتَ تكتب، لكي تعبّر عن شقائك، لكي تريح نفسك وتجلس بعدها صافي الذهن، تكلّم نفسك في المرآة وتحضنها، وكأنك خرجتَ من النفق وسرتَ تحت الضوء ورأيت الحياة. لقد سيّرت نفسك بالرسائل، وصبرتَ وسرتَ من حصار روحي إلى آخر، أحياناً تتحول هذه الرسائل نفسها إلى سلاح معكوس، تحيّرك في بيتك، وتجعلك تلوب وتلوب من الألم، لكنك تعود إليها لكي تدبّر حالك، وترد الصاع صاعين...

كان ألم الرسائل لا ينتهي، وكنتَ تجلس لساعات لتكتب وتكتب وتكتب... وكأنك مكلّف بكلّ هذا، تكتب لكي تكتب، تكتب لكي ترد، تكتب لكي تستعطف، تكتب لكي تنادي، لكي تصرخ، تكتب لأنك لا تعرف ماذا ستكتب، عسى ولعل يذوب الجليد وتختفي الجدران من حولك، وتجول في نفسك وخارجها.

تمنّيتَ نفسك كاتباً بلا مشقّة، لكن لا وجود لكتابة بلا مشقّة. تمنّيت نفسك كاتباً بلا متاهة، لكن لا وجود لكتابة بلا متاهة. كنتَ تسردُ لنفسك تفاصيل الأذى والضياع، تفاصيل الأوهام والذكريات، تفاصيل ما اعتقدته أنه كان، لكنه لم يكن. طيّرتَ نفسك فرحاً، ونظرتَ إلى الموت هناك، كان الحزنُ يُمرْكِزُ نفسَه فيك، فتحملُ التِرْكة وتسيرُ بعكازٍ في الخلاء المُتخيّل لك، لكي تسقط من سريرك وتفزّ من النوم.

كم كنتَ عسيراً مع الحياة؟ كم كانت حياتُك عسيرة وألفتك مُكْلِفة؟
أقومٌ يسيرون حقاً هنا؟ أحفاةٌ من الجنوب، يبرزون صُوَرَ الشِعر في البيداء؟

الأضواء من بعيدٍ، وأنتَ بلا أملٍ تركنُ لحالك طاسَ المرارة، ثم تحتسي منها قليلاً وتصارحُ نفسك بكل الفشل الذي لاقيت. لكنك ندمتَ، وكلما ندمتَ على ندمك، رفعت رأسك من جديد لكي ترى كم أن الجمرة تشتعل، وكم هي صغيرة وكبيرة، وأنتَ لا تستطيع إلا أن تحملها، تسيرُ من هذا الطرف إلى ذاك. وتخيّلت نفسك بلا ألم ولا وهمٍ ولا مهدٍ ولا حتى إشارة.

تُداعبُ نفسك اليومَ لكي تفصلها عن حال بؤسك ويأسك، الأضواءُ مشتعلة والأهواء فيها تتحرك والرياحُ تهبّ.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب