الأربعاء 2019/07/24

آخر تحديث: 13:24 (بيروت)

"أمس" داني بويل: ماذا لو لم يسمع أحد بالـ"بيتلز"؟

الأربعاء 2019/07/24
increase حجم الخط decrease
في وقت سابق من هذا العام، أُعلن أن بيتر جاكسون، مخرج سلسلة أفلام "مملكة الخواتم" سينجز فيلماً وثائقياً جديداً عن فرقة البيتلز الموسيقية. تحدثت الأخبار عن حصول المخرج النيوزلندي على حق استخدام 55 ساعة من لقطات غير مستخدمة صُورت خصيصاً لفيلم (Let It Be (1970، الذي دخل إلى كواليس عمل فرقة الروك البريطانية خلال تسجيل ألبومهم ما قبل الأخير الذي أعطى الفيلم عنوانه، موثقّاً أولى بوادر توتر سيتزايد بين أعضاء الفرقة الذين عملوا جميعاً في مشاريعهم الفردية في العام 1970. ثم انفرطت رابطة البيتلز إلى الأبد في نهاية العام نفسه.


خلال فترة وجودها المزدهر، تعاونت فرقة البيتلز في خمسة أفلام. Let It Be هو الوثائقي الوحيد بينها. يعود تاريخ أول وأفضل أفلامهم إلى العام 1964، حين أنجزوا الفيلم الظاهرة "A Hard Day's Night" (أو "ليلة عصيبة")، وهو موكومنتري خفيف يختلق رحلة يسافر عبرها رباعي الفرقة من مدينتهم ليفربول إلى ستوديو تلفزيوني في لندن. هذه الحبكة الهزيلة ستكون السبب الرئيس لإطلاق عدد من النكات السينمائية والأناركية الخفيفة وصراخ الفتيات. بعد عام واحد، صوَّروا فيلم "Help!" "مساعدة" - بالألوان هذه المرة - مستعينين بمواقع تصوير غريبة، ليخرج الشريط لعوباً بنكات واقتراحات على حافة الميلانكوليا. وحقق الألبوم الذي يحمل العنوان نفسه نجاحاً كبيراً.

لكن ماذا لو لم يسمع أحد عن موسيقى البيتلز، كما لو أنها لم تكتب أبداً مجموعة رائعة من أغنيات غيّرت شكل موسيقى البوب في ستينيات القرن الماضي؟ كيف سيبدو العالم إذن؟ هذه هي الفكرة الأساسية لفيلم "أمس"(*)، لكاتب السيناريو ريتشارد كورتيس، والمخرج داني بويل صاحب أفلام "ستيف جوبز"(2015) و"تراينسبوتنغ"(1996) و"127 ساعة"(2010)، وغيرها من الأفلام التي حاز عنها جوائز مرموقة.


جاك مالك (هيميش باتيل)، مغنّ شاب وكاتب أغاني كان يؤدّي لسنوات في المقاهي، وباستثناء مجموعة من الأصدقاء، لم يستمع إليه أحد. ذات يوم، علق غيتاره بشجرة صفصاف، فانقطعت الكهرباء في أنحاء العالم لمدة 12 ثانية، وصدمت حافلة مالك. عندما استيقظ، اكتشف أن بعض الأشياء قد تغيرت: لا أحد يعرف البيتلز. يبحث في الإنترنت فلا تظهر له سوى صور خنافس. يصبح المشهد أكثر تسلية حين يرفق اسم الفرقة البريطانية بعنوان أغنية مشهورة لهم مثل "أواسيس"، ليحصل فوراً على نتائج تشير إلى الواحات. لكنه يرى أن هذه ليست خسارة كبيرة لتاريخ الموسيقى. بفضل أغاني البيتلز الشهيرة التي أصبح مالك هو الشخص الوحيد في العالم الذي يعرفها، حصل على فرصة ثانية للنجاح. في البداية لم يحالفه الحظ كثيراً. في مشهد جميل، يجرّب غناء "Let It Be" أمام والديه، لكنهما مشغولان بأشياء أخرى، تمنعهما من الاستمتاع لجودة الأغنية. غير أن صعوده حتمي وقادم، بعدما جاءه الدعم من إد شيران، الذي سيعزف معه ويشعلان موسكو بأغنية "عودة إلى الاتحاد السوفياتي". يبدأ نجاح مالك في الانتشار، على غرار ما حققته الفرقة قبل نصف قرن.


ثم تبدأ ماكينة التسويق ومشكلات العمل. تتأكد مديرة أعماله الأميركية المتسلّطة (في دور لطيف لكيت ماكينون) أنه سيصبح ظاهرة عالمية. لكن ثمة شيئين مهمّين بالنسبة لجاك: كذبة أنه يكتب الأغاني بنفسه، والسؤال عما إذا كان حُبّه لمديرة أعماله البريطانية المخلصة إيلي (ليلي جيمس في ظهور ساحر)، التي شاركته أفراحه وأحزانه لسنوات، ليس أكثر أهمية من الشهرة. علاقته بإيلي تكتسب حوافاً كابوسية، بظهور المشاكل بينهما، بصورة تذكّر كثيراً بما يحدث لبطل "ذاكرة شكسبير"، قصة خورخي لويس بورخيس التي خلّد فيها ذكرى أعظم مسرحي اللغة الإنكليزية.

عنوان الفيلم مضلِّل إلى حد ما. إذ إنه يحيل إلى أغنية حب بيتلزية مألوفة، للإشارة إلى وجود فجوة كبيرة في حبكته، لكنه يتضمن أيضاً نوستالجيا صريحة لا دليل عليها في الفيلم. يتجنّب بويل، بمساعدة صغيرة من صديقه، كاتب السيناريو ريتشارد كورتيس، تصوير الفيلم بقواعد مدرسة زمن الفن الجميل واستجداء حنين المعجبين إلى أيام لن تعود أبداً. السحر الذي يسوِّقه "أمس" ليس في عبادة ما مضي بلا رجعة، بل في الاحتفاء بما لم يزل أبداً. إذا كان هناك هدف لفيلم بويل، وراء إشراكنا في تخمينات مبهجة، فهو تأكيد التأثير الدائم لموسيقى جون وجورج وبول ورينغو (وهذه نقطة من المرجح أن يتم تقديرها ضمن محيط ديموغرافي معيَّن)، مع عدم تنفير أولئك الذين يملكون مراجع أكثر حداثة في علاقتهم بموسيقى البوب (تواجد إد شيران في الفيلم أفضل مثال على هذه الفكرة).

 

من ناحية أخرى، يمكن اعتبار "أمس" ضمن ثلاثية غير رسمية (وغير مرتبطة) من أفلام حديثة تحتفي بنجوم البوب، بعد "روكيت مان" المخصص لسيرة إلتون جون، و"بوهيميان رابسودي" عن فريدي ميركوري. في تكريمه واحتفائه بموسيقى أبطاله الغائبة سيرتهم، لا يحفل "أمس" بالاستعارة المعتادة في أفلام من نوعية "مولد نجمة"، حيث نجاح البطل الكبير يعني تدميره نهائياً، وهي ثيمة لطالما التصقت بقصص الصعود السريع والشهرة الطارئة. لا يتعرض البطل هنا للبؤس أو الفساد أو تجاوز الحدود، حتى ليبدو ذلك لعيون مشاهِد معتاد على الخلطة المعتادة، نقصاً، وقلة كفاءة نصّية. لكن "أمس"، في النهاية، فانتازيا عشق وقصة حب. حيث لا تقلل الشهرة والنجاح والجوائز من سلوك مالك المتأصّل، ولا تتلاعب بمشاعره تجاه المرأة الوحيدة التي تعني له أكثر من غيرها. هذا، في حد ذاته، يبدو مفهوماً خيالياً، لكنه جميل ومتناسب مع أجواء الفيلم.

سيناريو الفيلم لريتشارد كورتيس (صاحب عدد من الكوميديات الرومانسية المميزة مثل "أربع زيجات وجنازة"، "نوتينغ هيل"، "لاف أكتشوالي")، لذلك ليس من المستغرب أن تأتي رومانسية الفيلم من النوع المحبب الهادئ والمتوافق مع أكبر مساحة طيف جمهور مستهدف. جاك مالك شخصية جذّابة ومن السهل الوقوع في حبها، على الرغم من مذهبه الكَلبي الساخر وفشله الأبله في التعرف على انجذاب إيلي، مديرة أعماله وأفضل صديقاته، إليه. إيلي أيضاً شخصية ملفتة ومحببة، رفعتها ليلى جيمس من منطقة دور عديم الملامح لصديقة مثالية إلى ما لا نهاية، لتضيف إليها لمحات استقلالية هادئة وثقة جديرة بفتاة أحلام معاصرة. النموذج الأقرب لشرير الفيلم، هو من نصيب كيت ماكينون، في دور مديرة الاعمال الأميركية، التي توجّه مسيرة مالك نحو مستويات أعلى عبر تكتيكات مفرطة التسلّط والبلطجة أحياناً على نحو يبدو مألوفاً لكنه مبالغ فيه إلى حد ما.


ومع كل ما يحتويه الفيلم من عناصر جذب وخامات سينمائية لإكمال عمل مثالي، من المخيب كثيراً أن يتخلّى بويل عن إبداعية قصته من أجل التحول إلى ترضية سنتمنتالية غير مجزية بقدر ما هي غير ضرورية. لذلك، مع "أمس"، يصنع بويل فيلماً منقوصاً لكنه ممتع للغاية. في عصر الأفلام المتكررة والسينما المنحوتة بمقاييس من خارجها، يصبح إنجاز بويل شيئاً جديداً في فيلم ذي ميزانية مرتفعة نسبياً، أشبه بمعجزة صغيرة في زمن صار من السهل توقع إصدارات الاستديوهات الكبيرة وأجندة أعمالها ومقاييسها.

بعد الطفرة الجماهيرية التي حققتها فرقة "كوين" العام الماضي، مع الفيلم الأوسكاري "بوهيميان رابسودي"، يبدو أن 2019 سيكون عام البيتلز مع "أمس". وعلى عكس بيوغرافيا فريدي ميركوري المثيرة للجدل، فإن فيلم داني بويل غير مهتم باقتفاء تاريخ الرباعي الليفربولي أو أي منهم منفرداً، بل يبحث أكثر في صناعة الموسيقى وأساليب التسويق العالمية عبر تقديمه هجاء حاداً بنبرة كوميدية خفيفة تشبه أغنية البيتلز الكلاسيكية. "أمس" ليس فقط ألطف أفلام المخرج البريطاني، منذ فيلمه المهضوم حقه "ملايين" (2004)، بل إنه أيضاً أكثر أعماله غير المحتمل توقع ظهورها منه. فيلم لذيذ يزهو بعيوبه ونواقصه، مثل ثمرة فاكهة غير ناضجة تؤكل في غير موسمها.

(*) يُعرض حالياً في الصالات اللبنانية.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها