الإثنين 2019/07/22

آخر تحديث: 18:11 (بيروت)

جنود المسيح

الإثنين 2019/07/22
جنود المسيح
فرقة "مشروع ليلى"
increase حجم الخط decrease
كما كان متوقعاً: "الفِكر" العوني كانت ستضيق به السياسة، عاجلاً أم آجلاً. فهو يكتسب صحة وينمو، والعلماء مدعوون لدراسة هرموناته العظيمة. سمن بسرعة على البرلمان ومجلس الوزراء ورئاسة الجمهورية، والتعيينات، وجولات التحدي في المناطق، والموازنة والكهرباء والنفط. وأتى نفعاً بيّناً، الخطابُ كامل الدسم الرّهابي في وجه آخَر يهدد "وجودنا وحقوقنا وحصصنا"، والآن "كرامتنا". 


الفكر العوني قوي ببساطته: كراهية، خوف، عدوانية، خوف، مظلومية، خوف، استفزاز، وقاحة، خوف، إقصاء واستحواذ، خوف، هيمنة، تحالفات استقواء، خوف، عنصرية، طائفية، شوفينية الجينات وحفظ النوع، خوف... الفكر العوني عُقدة، وليس معقّداً. كالماء يتسرب إلى الثقافة والفنون والحقوق المدنية، وأولها حرية التعبير والإبداع. هذه أيضاً سياسة. وحفلات الجنون لا تقام فرادى، كالخيال لا تحدّه حدود. الصّرف سريع الجريان، يتدفق في كل المسارب القديمة، ويشق أخرى جديدة، أسوة بـ"أخوتنا المسلمين". والحق أننا كلنا أخوة بالفعل. نغضب ونشجب ونغار على أنبيائنا ومقدساتنا، نطالب بالمنع والحذف والاعتقال، بالطرق نفسها، وللحساسيات والمشاعر "المرهفة" عينها، وباليد الحديدية ما غيرها، في الشارع والمؤسسات، في الإعلام والسوشال ميديا.

الحملة المثارة اليوم على الفرقة اللبنانية "مشروع ليلى"، ومغنيها حامد سنو، سبقها الكثير (منع أفلام وكتب وعروض فنية، التحقيق مع شربل خوري، رقابة على برامج تلفزيونية...)، وسيليها الكثير على الأرجح، فيما قضية الأب منصور لبكي ما زالت تتفيأ بالتناسي، بل وربما تحظى أخيراً بثمار جهود الغفران. أما قضايا البيدوفيليا والتحرش والاغتصاب، المرفوعة على الكنائس حول العالم، والتي أججت النقاش داخل الكنيسة وأخرجته إلى الحيز العام، فتبقى في لبنان سرّاً من الأسرار، وشأناً عائلياً مسكونياً.

الأمر نفسه يسري بالطبع على رسوم وأفلام تناولت نبي الإسلام محمد، وبرامج ساخرة تجرأت على زعماء حزبيين مُعمّمين أو بربطات عنق، بل وحتى الأفلام التي قد تجرح أنظمة حكم في سوريا وإيران، أو قمة عربية في بيروت تشارك فيها ليبيا غير ليبيا سبعينات القرن العشرين. هو تاريخنا (ومستقبلنا؟) المشترك الذي ربما من الأجدى اعتماده في المدارس، بدلاً من ذلك التاريخ الفرعي الذي لم نتمكن حتى الآن من التوافق على صيغة وطنية وموضوعية له نقدمها لتلامذة لبنان.

العقلاء والمتنورون، رخويات الطوائف. فهذا زمن العصَب المشدود. ولئن افترضنا، في حالة الحملة على "مشروع ليلى" باعتبارها الأحدث، أن الغاضبين من "إهانة" المسيح والعذراء، ومن "الترويج" للمثلية الجنسية والتجديف و"الشيطان"، ليسوا جميعاً من أجواء "التيار الوطني الحر". إلا أن الأخير، بخطابه ومنطقه وقوالب مسيحيته، هو الدينامو المعنوي والرمزي، يُرفَد بوعي وعمل مثابر لناشطيه وكهنته ومؤسساته وبلدياته. فإن جذبت بلدية الحدت أضواء الشهرة، وسبح المركز الكاثوليكي للإعلام في أنوار المجد، ففي الظل جيوش مواهب لن تدّخر جهداً لتحظى بكل لمبة ممكنة.

و"الفِكر" الذي تقوم عليه الحملة الجديدة ضد "مشروع ليلى"، يتطور، يزداد وضوحاً، ونقاء بالطبع. فالقصة صارت تتعلق بمسيحيي المشرق، ليس فقط بمخيال أقلويتهم وتهديدهم، بل بكونهم "الأساس"، وباعتبارهم حُماة الكنيسة حتى من نفسها، من "ميوعة" فروعها الغربية التي باتت تتسامح مع المثلية الجنسية تماشياً مع موجة تعاطف عامة في الغرب مع المثليين والحريات، و"لأنو بدهم عدد". الكنائس الغربية سقطت في عيون مسيحيي المشرق، لحظة فتحت أبوابها، ولو مُجبرة، لقيم الدول والجمهوريات التي فصلتها عن السياسة والإدارة، وفصلت عنها الرعية أفراداً ومواطنين. وها هم مسيحيو الشرق، بدورهم، يتنادون لنزع نياشينهم التاريخية كأحد أول مكوّنات المنطقة التي انفتحت على الغرب ولغاته وثقافاته، ولا أحد أحسن من أحد.

هانت الكنيسة إذاً. لكن الرب يبتلي ويُعِين، وأبقى للعالم هذا الشرق الأصيل، والذي سيردّ، كما قال كاهن في فيديو، ليثبت كم هم مخطئون "كل العالم اللي فكرت أنو مسيحيي لبنان انتهوا". مسيحيو المشرق، بحسب دعاة الحملة على "مشروع ليل وظلمة أبدية"، هم جنود المسيح الأوفياء، أصحاب الدم الحامي. وهم سلميّون طبعاً، لكنهم مُطالَبون بأن يهبّوا جميعاً حتى "غصباً عن رقبتهم بتسكروا الحفلة" في جبيل. سلميّون هم، وليسوا كـ"أخوتهم" الذين ينتمي إلى طائفتهم حامد سنو. لا يحبون إثارة النعرات الطائفية، جنود المسيح في المشرق، ولذلك يتأبى أحد مناشديهم عبر الفيديو، الاستفاضة في التعليق على اقتران عبارتَي "الجن" و"باسم الأب والابن" في إحدى أغنيات الفرقة، ويكتفي بالتساؤل: "الجن وين مذكور بالانجيل؟". وهم طاهرون من الفئوية، يعايرهم مناشدُهم نفسه: "كرمال الزعماء بتنزلوا، وبتتخانقوا (كمسيحيين) مع بعض.. وكرمال المسيح ما حدا بينزل؟". وكلنا في انتظار الإجابة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها