الأحد 2019/07/21

آخر تحديث: 09:33 (بيروت)

"سورية الناصرية" المؤممة... اقتصاد السراب والعدم

الأحد 2019/07/21
"سورية الناصرية" المؤممة... اقتصاد السراب والعدم
القوتلي وناصر
increase حجم الخط decrease
في تقديمه لكتابه "عبد الناصر والتأميم/ وقائع الانقلاب الاقتصادي في سورية" (منشورات رياض الريس – بيروت) يقول سامي مروان مبيّض، وهو ابن عائلة دمشقية تجارية تخصصت في صناعة المفروشات أو الأثاث المنزلي، وعرفت بـ"مفروشات مبيّض": "لا يوجد أي كتاب شامل عن تجربة التأميم والحياة التجارية والصناعية والمصرفية في دمشق منذ عشرينيات القرن العشرين حتى ستينياته، وكل ما كتب بإسهاب كان نتاج باحثين غير سوريين"، أمثال الاسكتلندي رايموند هينبوش والألماني فولكر بيرتس، أو البروفسور الفلسطيني الاميركي حنا بطاطو. وجميعهم بحسب مبيّض، عالجوا التأميم من "وجهة نظر العامل والفلاح، وهي وجهة نظر قائمة وتمثل شريحة واسعة جداً من الناس، لا يمكن تجاهلها ونسفها"، ويحاول مبيّض الاقتراب في كتابه من موقف الطرف الآخر، "أي وجهة نظر صاحب الأرض المؤممة، وصاحب المعمل المصادر، وصاحب المصرف المستملك"، ولهذا يجري مقابلات ولقاءات مع شخصيات سورية لها تجربة وخبرة في الحياة الصناعية والمصرفية والتجارية، أُممت مصانعها ومؤسساتها ومصارفها، وهم حكايات وقصص و"صنايعية" بالتعبير المصري، لم ينج نجاحهم من حسد أهل الضغينة والايديولوجيا، وكان لهم باع في تفعيل السياسة وأدوارها...  وبرأي المؤلف أن "استقلال سورية كان أشبه بالمستحيل لولا الأموال التي ضخت بشرايين الحركة الوطنية، بشقيها السياسي والعسكري، وأن البرجوازية السورية، أدت دوراً محورياً في جلاء قوات الاحتلال عن سورية عام 1946"، وهؤلاء "نحتوا في الصخر لكي يشيدوا مصانع كانت مفخرة"(ص 21)، لكن المصانع "تحولت بشطبة قلم إلى سراب"... والسراب بحسب "لسان العرب": "يَخْفِضُ كلَّ شيءٍ حتى يَصِـيرَ لازِقاً بالأَرضِ، لا شَخْصَ له".

فبعد الوحدة المصرية - السورية "المعجزة" والمفتعلة على أيدي مجموعة من الضباط السوريين(الناصريين)، دون استئذان رؤسائهم الحزبيين، وحتى اعلامهم بما سيقدمون عليه، فحملت في ثناياها "بذور الانفصال" لكونها حصلت نتيجة حماسة دون دراسة معمقة (عبدالله الخاني، الأمين العام الأسبق لرئاسة الجمهورية السورية في تقديم الكتاب ص 13)، هلل السوريون، شعباً وقادة، في البداية للوحدة، وافقوا على "شطب ذكرياتهم وانجازاتهم الفردية والجماعية"(28)، تنازل الرئيس شكري القوتلي عن منصبه طواعية، واكتفى بصفته الجديدة "المواطن العربي الأول" وهو من الملاكين، واندمج الجيشان المصري والسوري تحت قيادة واحدة برئاسة عبد الناصر. ساور الاقتصاديون في سوريا بعض الارتياب أن العهد الجديد للجمهورية العربية المتحدة قد يطبق القوانين الاشتراكية المصرية على الاقليم الشمالي(السوري)، رغم اختلاف الوضع بين الاقليمين(المصري والسوري). وبعد فترة وجيزة من تحقيق "الوحدة" وتأمين نظامها وشؤونها، زار عبد الناصر بلاد الشام وسط ترحيب واسع، وعندما قابله بعض الصناعيين ورجال الاقتصاد في سورية، وعرضوا عليه ريبتهم من تطبيق الاشتراكية المطبقة في مصر، طمأنهم إلى أن ذلك لن يحصل، فارتاحوا لوعوده... إلا أن "بعض مدعي الاشتراكية في سورية" بحسب عبدالله الخاني، وهم لا يعلمون من الاشتراكية سوى "نزع ملكية الأغنياء"، اضطر "تحت إلحاحهم، وضغوطهم، بدعوى أن الوحدة بين البلدين لا يمكن أن تتم الا بتوحيد الانظمة والقوانين". اضطر بداية الى تطبيق قانون الاصلاح الزراعي، ثم التأميم المؤسسات الاقتصادية في الاقليم الشمالي... ومن دون شك، وبشهادة بعض مناصري الناصرية، فإن قرار التأميم "قصر من عمر الوحدة"، تغيّرت دمشق جذرياً منذ ذلك التاريخ، وتغير معها تجار الشام وصناعيوها، "تحول الجيل المؤسس من الاقتصاديين من بناة وطن الى رأسماليين "عفنين"، في نظر المسؤولين في الجمهورية العربية المتحدة"(ص 21)، كان عبد الناصر يعتمد على مشورة بعض المصريين والسوريين، الذين اقنعوه بأن يمضي في هذا الطريق، سعياً نحو "العدالة الاجتماعية". وكان غريباً عن سورية، ولم تتسن له معرفة تفاصيلها وخصائصها الا عن طرق أكرم حوراني والسراج والمشير عامر، و"هم أسوأ بطانة"، اولاهم ثقته المطلقة، ولم يفكر قط باحتمال الفشل و"كان للولاء المطلق الذي لمسه، في دمشق وغيرها من المدن السورية دور كبير في تكثيف الغشاوة على عينيه، حيث ظن أن قراراته كانت منزلة ولا يمكن احد ان يعترض عليه". منذ أن ظهر على الساحة المصرية قبل سنوات، كان النجاح حليفه بكل ما قام به. واقنعه الضباط بأنه معصوم عن الخطأ، وانه سينجح في حكم سورية، بذات الاساليب التي حكم بها مصر، بعد الثورة عام 1952 وبعد حرب 1956. و"لم يأتِ إلا قلة من السوريين ليقولوا له إن هذه المؤسسات كانت تنجح وتجني أرباحاً لأن مؤسسيها كانوا يديرونها، وهم الأحرص على مالهم ورزقهم، وأعلم بمصلحتهم من موظفي جمهورية الوحدة". حطم قرار التأميم جيلاً كاملاً من الصناعيين الذي كانت قد "جمعتهم احلامهم الفردية الكبيرة"، التي "ادت الى نهضة اقتصاد سورية بأكمله"، وأدى الى "زوال طبقتهم الاجتماعية، ثم الى انهيارات متتالية في مفاصل الاقتصاد الوطني"، واستبدل هؤلاء الاثرياء بـ"اثرياء جدد صنعتهم الظروف السياسية في زمن الوحدة وما بعدها".
 فضلا عن أن التأميم خلق جوا متوترا بين مصر وسوريا وسلبيا للغاية بين الدولة وتجار كل من حلب ودمشق وصناعييهم. وفي أول زيارة لعبد الناصر إلى سوريا بعد صدور قرارات التأميم، لاحظ فتوراً لدى مستقبليه في مطار دمشق وتراجعاً لافتاً في أعدادهم. السبب لم يكن التأميم طبعاً، فجمهوره من العمال والفلاحين كانوا من أشد المؤيدين لهذا القرار، وهم جماهير هادرة مؤيدة للناصرية إلى درجة القداسة، وحاول عبد الناصر أن يظهر في مظهر متواضع عندما كان يصف نفسه على أنه مجرد ممثل أعلى للشعب. ولا يستبعد أن يكون ذلك أصيلا في نفسه، ولا بد من ادراك حقيقة مهمة جدا، وهي ان فكرة القومية العربية ليست جزءاً من أسطورة ناصر الا ان مفهوم كون مصر "رائدة العرب" قد غدت جزءا مهما من الاسطورة (مايلز كوبلاند في "لعبة الأمم/ اللاخلاقية في سياسة القوة الأميركية"). لكن الكثير من السوريين المؤيدين للاجراءات الناصرية كانوا قد بدأوا يفقدون ثقتهم بالعهد(الناصري)، بسبب تراجع ملحوظ في مستوى معيشتهم وتكبّر المصريين عليهم في كافة القطاعات، منها السياسية والعسكرية، مع ملاحظة امتيازات خاصة للمصريين وشكل من أشكال الاستتباع للسوريين. وأدى قرار التأميم الى عزل سوريا عن دول الجوار وفقدان منتجاتها من أسواق لبنان والاردن والعراق والسعودية(ص 47)، كذلك احتكرت مصر تصدير أهم المحاصيل السورية كالحبوب والقطن، ومنعت التجار السوريين من استيراد بعض الاساسيات من الخارج، مثل السكر والمحروقات، الا اذا كان ذلك من طريق القاهرة. وفرض رسم 7 في % على المنتجات السورية المتجهة الى مصر، وأعفيت المنتجات المصرية من أي ضريبة مماثلة، ومنعت المصارف السورية من العمل في القاهرة، وكذلك الخطوط الجوية السورية... وأدت القرارات الاعتباطية المتسارعة إلى نفاد جميع المواد الاولية والاموال الاحتياطية من خزينة الدولة السورية، واذا ما ارتفعت وتيرة الاعتراض على الوحدة ونتاجها سارع عبد الناصر الى تذكير السوريين بأنهم هم الذين جاؤوه لأجل الوحدة وليس العكس... كأنه يذكرهم بـ"العبودية المختارة" لإتيان دو لابويسي..

وتتالت الأخطاء ومنها ما قام به بعض رجالات سورية في الإقليم الشمالي، ومنها ما حصل في الاقليم الجنوبي. ففي الاقليم الشمالي، اخترع مدير جهاز المخابرات السورية الاسبق عبد الحميد السراج مؤامرة هيأها الملك سعود مقابل مبلغ ضخم يلمه بشيك للسراج ليفجر طائرة عبد الناصر لدى عودته من سورية. كان السراج يهدف من وراء ذلك الى زيادة القربى من الرئيس، وكانت تلك طريقة مخابراتية سمجة زادت الخلاف بين البلدين، والسراج نفسه كان وراء تذويب الشيوعي فرج الله الحلو بالأسيد. أما اكرم حوراني، فكان عبد الناصر قد عينه نائبا له، وبعد فترة ضاق صدر الرئيس من الدسائس التي كان يدسها الحوراني عن زملائه السابقين تحقيراً لهم وقربا منه... وبعد ان اكتشف عبد الناصر نفسه نفسية حوراني الحاقدة، نبذه واقصاه.


أما اخطاء الاقليم الجنوبي في سورية، فكانت في هيمنة أجهزة الامن والمخابرات المصرية على السكان وعلى اجهزة الدولة، ولا سيما على الجيش، ما ولّد لدى الضابط النقمة على الوحدة، ثم تصرفات المندوب الذي اعتمده عبد الناصر في الاقليم الشمالي، المشير عامر، وكذلك عدم أخذ عبد الناصر بالتحذيرات والنصائح التي أسداها إليه الرئيس شكري القوتلي وغيره.. كل ذلك أدى، الى وقوع الانفصال بعد أقل من ثلاث سنوات على تحقيق الوحدة، وسارع عدد كبير من أعيان سورية إلى تأييد انقلاب الانفصال منهم شكري القوتلي من خلال خطاب متلفز، وعادت الانقلابات تنحر سورية وتدفعها نزولا حيث انزلقت الى درجة دنيا من المكانة العالمية، خصوصا في التعليم. وأسس التأميم لاقتصاد النهب والسرقة والرشوة، إذ إنه جرى في تلك الفترة، إفراغ البلد من كل الشخصيات الوطنية البارزة، وتهيئتها لحكم العسكر، الذين حولوا بدورهم جميع المناصب الحكومية، إلى مناصب شكلية، وكان التأميم من دون تعويضات سبباً في هجرة أصحاب رؤوس الأموال الى لبنان وبلدان اخرى، وشردت بعض الأسماء التاريخية في متاهات الهجرة ومحاولة النهوض. وبدت سوريا في ظل الناصرية كأنها مستعمرة بقناع "عروبي"، وتشبه الى حد ما وجود الجيش السوري في لبنان... واليوم تبدو سوريا أمام تجربة أشد ضراوة وقسوة، مع صعود الرأسماليين الحاكمين من جهة (أي آل مخلوف وآل الشاليش، وسامر فوز، وآل الاسد) والخصخصة المتوحشة، ومع وجود استعمار متعدد الأوجه من اميركي يبحث عن النفط وروسي يستثمر من المرافئ والنفط والمعادن، وايراني يستحوذ على الاراضي الخصبة والوحدات السكنية والمقامات الدينية، وهناك الجماعات الحزبية والعرقية والايديولوجية التي تتاجر بكل بشيء وتحرق محاصيل القمح، وعلى هذا تبدو سوريا جزيرة عدم، بعدما كانت "بروسيا الشرق الاوسط" كما يسميها الخاني.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها