الخميس 2019/07/18

آخر تحديث: 17:32 (بيروت)

نظير حمد لـ"المدن": كل المهاجرين هرباً ولجوءاً.. أثرياء

الخميس 2019/07/18
نظير حمد لـ"المدن": كل المهاجرين هرباً ولجوءاً.. أثرياء
increase حجم الخط decrease
في مشهد التحليل النفسي الباريسي، يلمع اسم نظير حمد. ومرد ذلك، ليس فقط أنه مضطلع بالنظر في أحوال الطفل وشؤونه، وهو اضطلاع تقاسمه مع صديقته القديرة فرنسواز دولتو. بل إنه، وبالإضافة إلى مزاولته "نصت الوصب"، أي الإستماع إلى كل وجع متلو على ديوانه، لا يتوقف، أيضاً عن وضع نصوصه في كتبٍ، لتتوزع على تجربة سردية، أو على صنعة معرفية. طبعاً، القليل منها، وهو "قليل القليل" على وصف فولتير لحيازة العلم، قد نُقِل إلى العربية، وهذا، على الرغم من جدائها. ومؤخراً، أصدر حمد، وبالتعاون مع صديقه شارل ملمان، كتاب "بسيكولوجيا الهجرة" (دار Langage)، الذي يدور حول الصلات بين الوافدين إلى فرنسا ومواطنيها، التي تترك أثرها في الطرفين، وتحملهما على التحول، إقبالاً متبادلاً، أو على رفضه، إنعزالاً متطابقاً.

يخبر حمد في حديث لـ"المدن" أنه اختبر الهجرة، التي لم يخترها على ابتغائه لها بذاتها، إنما ابتغاء لـ"الضياع" عبرها. ففي نهاية ستينات القرن المنصرم، كان طالباً أنغلوفونياً، يدرس الطب في الجامعة الأميركية ببيروت، وما كاد ينهي سنته التحصيلية الأولى، حتى قرر، عندها، أن ينتقل إلى فرنسا، وإلى باريس تحديداً، التي لا يعرفها، ولا يتكلم لغتها. تاه حمد في هذه المدينة، وقد كان توهاناً بلا وحشة، إذ إن موسيقى الكلمات، التي راحت ترن في آذانه، جعلته يمضي إلى الدراية بها على أكمل وجه، "لم أفاجأ فقط من انجذابي إلى الفرنسية التي لم اكن قد تكلمتها من قبل، بل من تمكني السريع منها أيضاً". بعد فترة، سيدرك أنه، وعندما كان لا يزال رضيعاً، كانت الممرضات حوله يتكلمن تلك اللغة، وبالتالي علقت، كـ"لدانة فونيمية"، في وجدانه، إلى أن عاد والتقاها بعد عقود.

ثم بدأت رحلة مجهولة، انقشعت وجهتها شيئاً فشيئاً، من دراسة الطب النفسي، ثم التشكل أو التكون كمحلل، ومن بعدها، الانطلاق في مزاولة المهنتين على تداخلهما، من المشفى إلى العيادة. وفي هذا المطاف، تقاطعت مسيرته مع مسيرة كثرة ممن نقلوا التحليل إلى أطوار ومضامير أخرى، وفي مقدمة هؤلاء فرنسواز دولتو، التي رافقها في تثويرها للتصور عن الطفل وللعلاقة معه ولتنشئته، محاوراً اياها، وملمّاً، في إثر ذلك، بالتبني، الذي سيؤلف فيه، مفسراً آلياته، التي تبدي أن مجيء الطفل من صُلب أسرته ليس شرط بنائها له، وتشييده لها.


فعلياً، سيبقى الطفل وتبنيه من مشاغل حمد. لكن ذلك، لن يمنعه من مقاربة ميدان غيره، وربما الإبتعاد عنه كثيراً، مثلما فعل حين اختبر كتابة الرواية في ثلاثيةٍ، تؤرخ لعيش الكلام وموته في لبنان. "يومها، صرت اتلقى رسائل من قراء فرنسيين، يقولون ان الشخصيات، وهي في غالبيتها من قرية بقاعية صغيرة، حيث تجري الحكاية، قريبة منهم، كما لو أن الرواية تحكي عنهم، وبهذا، تأكدت من قدرة الأدب، ومن الشرط الكينوني، الذي يعبر كل حد وكل هوية".

هذا، في الواقع، ما سيواظب حمد على إثباته من كتاب إلى آخر، وعلى نحو تحليلي شيق، يقدم حالات صادفها، أو بالأحرى عمل معها، متحدثاً عن كيفيات تحول أصحابها عند وصولهم إلى موطن جديد. وأول هذا التحول، أو أساسه، ومحركه، هو اللغة، هذا الآخر، الذي يجعل منهم كائنات فيها، بحيث، ومهما تغايروا، أي كانوا أغياراً، يبقون "مقوننين" عليها، وهذا طبعاً يستلزم منهم النفاذ إليها، وإتاحة نفاذها اليهم.

يدرك حمد أن "الشرط الكينوني" هذا، ولأن الإشارة اليه لا تُؤخذ على أي محمل في راهننا، لا توضحه سوى ممارسته في كل النواحي. وربما هذا ما يحثه، مع شارل ملمان، باعتبارهما متحدرين من خلفيتين دينيتين متباينتين، أي المسلمة واليهودية، على التعاون. فعدا عن تشاركهما المحاضرات والندوات، كانا قد أصدرا معاً كتابا في العام 2014، كما أنهما، وقريباً، سيصدران كتاباً ثالثاً. وهذا التعاون لا يستند إلى كونهما يكتبان النص سوية، بل إلى جدالهما الذي لا يتوقف، "فنحن نجلس ونتحدث، نقدم لبعضنا البعض ما يجول في خواطرنا، ومن بعدها، أذهب إلى كتابتها، فشارل لا يجيد الكتابة، إنما التكلم". ولقارئ "بسيكولوجيا الهجرة" ان يتنبه إلى أن حمد استطاع بكتابته أن يبديه ثنائياً، وفي الوقت نفسه، مؤلف بتخطيه هو وزميله شارل ملمان، أي بلغة تحليلية تشتغل بينهما، وتربط باستمرار بين التبني والهجرة من ناحيتي الإقبال والإستقبال، لا سيما أنها قوام ذلك الشرط على الدوام.

تناول حمد الهجرة لأنها، كمسألة، ملحّة، ولأن للتحليل قول، أو أقوال فيها، بعيداً من الأحكام الرائجة حولها. بحسبه، "المهاجرون، لجوءاً وهروباً، والذين لم يتمكنوا من الانخراط في حقيقة بلدانهم الواقعية، أكانت حرباً أو غيرها، هم أثرياء". وسبب ثرائهم، أنهم لم يستسلموا لها، لم يتوقفوا عندها، بل إمسكوا برغبتهم في النجاة، وانصرفوا على متنها. النجاة، أحياناً، يكسرها غرق من هنا، أو توقيف من هناك، لكنها عندما تكتمل، تبدأ مرحلة أخرى من بعدها، وهي تحويلها إلى حياة، الحياة التي يشكل الإندماج جزءاً منها، وليس كلها. في هذا المطاف، يشير حمد إلى أنه لا يؤمن بأن "الاندماج صار مستحيلاً في الاجتماع الفرنسي، فكل الحديث عن نيوليبرالية هذا الاجتماع، وتذرره، هو حديث مبالغ فيه". فلا تزال سُبله سالكة، ولا تتطلب سوى فتح للأبواب من المواطن ومن الوافد معاً. فلا الأول يمضي أيامه بين من يعتقدهم أهله لاجماً نفسه عن سواهم، أي عن الثاني... ولا الثاني يجد في ظهور الأول فرصة لبعث من يعتقدهم أيضاً أهله، وهذا، باستعدائه، أي بأخذه عدواً، وموضوع اعتداء.

في السياق هذا، لا يتابع حمد المجريات في لبنان كثيراً. لكن، مع إنبائه عن تفاقم الاقصاءات، العنصرية وغيرها، من كل حدب وصوب، وفي كل حدب، وفي كل صوب، رآه متوقعاً للغاية، ولا يستدعي تباغتاً. ذلك أن تلك البلاد، التي اختار ذات مرة الضياع منها، ونجح، لم تجد نفسها بعد، وهي على الأغلب لن تجرب، فهي لا تزال تخاف منها! 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها