الثلاثاء 2019/07/16

آخر تحديث: 13:45 (بيروت)

مشايخ الدروز... صورة انتروبولوجية

الثلاثاء 2019/07/16
increase حجم الخط decrease
حين نشر المصور اللبناني الفرانكوفوني سامر معضاد، في كتابه "عالمي العربي"، صورة لشيخين درزيين شابين (مع صور أخرى) بثيابهما التقليدية، القبعة أو القلنسوة البيضاء و"الشروال" الأسود والقميص الرمادي والأسود، بدت الصورة جاذبة بقوة للكتابة ولمحبّي المشهديات الانتروبولوجية والاجتماعية. الشيخان في الصورة يلعبان كرة القدم في أحد ملاعب مدينة عاليه الجبلية اللبنانية، واحد متحفز لالتقاط الكرة المطاطية وسط المرمى المتشكل من العارضة المعدنية، والآخر طائر في الهواء بعد قذفه لها، وفي محيطهما كشك أو كوخ "بيبسي كولا" وبناء متصدع، وفيلا جديدة البناء.
 
هذه الصورة التي تعكس أحوال العالم ومراياه وتناقضاته، سرعان ما اختارها معضاد لتكون غلافاً لروايته "رحلة إلى بلاد الدروز" التي تغوص في الاضاءة على تاريخ طائفة لطالما وصفت بـ"الغامضة"، على ما يقول الشاعر والرحالة الفرنسي جيرار دو نرفال، أو التي تمكنت من الحفاظ على تقاليدها وعلى هالةٍ ساحرةٍ، رغم توسّع المجتمع المعاصر، بحسب الشاعر الرومنسي الفرنسي لامارتين، وهي أقفلت باب الدعوة وتمنع الزواج من الأغيار، ويشبّه بعض الغربيين شوارب بعض شيوخها بشاربي نيتشه، الفيلسوف الألماني... وعلى هذا، تبدو الطائفة جاذبة للكثير من التأويلات وكتابة الروايات والتخيلات، وصولاً إلى التخاريف الشعبية والطائفية.

لم يكن معضاد، مصور بيروت وعاشقها، أول من صوّر المشايخ الدروز، لكنه أخذ صوراً لها وقعها الخاص الانتروبولوجي والبصري. وثمة صور قديمة لمشايخ دروز، انتشرت في وسائل الإعلام أولاً، ثم في مواقع الانترنت، سواء في زمن الحرب الأهلية اللبنانية، أو في الزمن العثماني، وتُظهر تبدلاً في "الزي" الدرزي... وإذا كانت صور معضاد قد اشتهرت وحملت الكثير من التعليقات، ففي العام 2014، تحول شيوخ الدروز فكرة لمعرض خاص بعنوان "مشايخ الموحّدين الدروز في لبنان – مرايا"، في المعهد الفرنسي في دير القمر بتوقيع وليد رشيد، كرحلة استكشاف ليوميات المشايخ وأنماط حياتهم في لبنان. وقتها، كتب جورج الـبستاني في موقع "ناو ليبانون" المحتجب: "وليد رشيد يكشف، في سابقةٍ جريئة، وجوهًا محافظة من جماعةٍ لبنانيّة لطالما عُرفَت بباطنيّةٍ وانطوائيّةٍ".. و"خلال سفره إلى أكثر من 20 بلدًا حول العالم، لم يُسأل وليد رشيد مرّةً عن انتمائِهِ الديني، إلاّ وقرأ ردّ الفعل ذاته في وجوه سامعيه. استغرابٌ وجهلٌ تامّ لوجود طائفةٍ توحيديّة تتميّز بخصوصيّةٍ ثقافيّة".

وما فعله رشيد في معرضه، أنه أخرج الشيوخ من أسر النمطية الكلامية والزي الهوياتي. فالنظرة التقليديّة للمشايخ بعيدة من الدقّة، والزي الديني لا يعني أن الشيخ خارج الحياة الاجتماعية والثقافية، والمشايخ بينهم الفنّان التشكيلي، الصيدلي، المصوّر، الحلاّق، الجرّاح، طبيب الأسنان، المدرّس، القاضي، عاشق سيارات الدفع الرباعي، الراعي، المثقف، لاعب كرة القدم والطالب، وصولاً الى المقاتل في زمن الحرب..الخ. هؤلاء، لم يأخذهم التديّن عن الدنيويّة وأمورها، وبين كل المهن يبقى الزي نوعاً من هوية أو "عصبية محلية"، كانت تجذب الرحالة سابقاً، والآن بعض المصورين.
 
في الموسم الجديد من مهرجانات بيت الدين 2019، يقدم المصور اللبناني جاك داباغيان(*) معرضه بعنوان "سر الأسرار" الذي يختلف فيه عن زملائه. إذ لا يهدف الى تبيان دنيوية المشايخ الدروز، كما فعل وليد رشيد، ولا يلتقط مفارقاتهم بالأبيض والأسود كما نستنبط من صور سامر معضاد. بل يذهب إلى التقنية والجودة العالية من خلال تصوير الشيوخ الدروز في أروقة وأماكن ترتبط بهم، وبالاتفاق معهم، إلى درجة تظهر في الصور السمة الرسمية، لشيوخ يقفون عند الأبواب أو قرب القناطر أو على حافة بركة القصر أو في البراري... المهم في معرض داباغيان أنه يتمحور حول فكرة إعادة امتلاك تقنيّة تصوير قديمة تُعرف باسم تقنيّة سائل الكولوديون الرطب، اختارها لكي يُضفي سرمديّةً على أعماله من صور بورتريه إلى مشاهد طبيعيّة. وتُظهر صور داباغيان الثراء الإبداعي لهذه العملية، حيث تضيف لعبة الأضواء وتقنية العمل وتدخل المُصوَّر في بُعد مشهدي حالم. وحسبما ينقل المصور نبيل اسماعيل، كان داباغيان يبحث عن صور الدروز بين الصور الاستشراقية، فلم يعثر على مبتغاه، اتصل بالأب المسؤول عن مؤسسة الآباء الدومينكان في القدس الذي أخبره بعد البحث في أرشيفهم الفوتوغرافي ان ما تبقى لديهم هو قرابة 44 ألف صورة على ألواح زجاجية، التقطت ما بين العامين 1850 و1920، ولا وجود فيها لأي شيخ درزي.

كانت إجابة الراهب الكاثوليكي، لداباغيان، مفتاحاً لفكرته. وهي التقاط صور بالتقنية ذاتها التي كانت سائدة آنذاك، أي في الفترة التي تلت العام 1850، والمعروفة شعبياً "بالصورة الزجاجية" وتقنياً "سائل الكولوديون"، من أجل ملء الفراغ الحاصل في الأرشيف البصري البشري عن هذه الطائفة. وعن الأسباب التي دفعته إلى اعتماد التقنية القديمة، يقول داباغيان "أنها طائفة دينية معروفة حافظت على تاريخها الطويل في المنطقة، مع مرور الوقت لم تغيّر كثيراً في طريقة حياتها التقليدية، وممارسة طقوسها الدينية بزهد وصدق وتأمل وتقرب من الخالق، وأعتقد أن لا معنى تاريخياً للصور لو أنها التقطت بتقنية اليوم".

والحال أن ما يجمع بين ومعضاد ورشيد وداباغيان هو التجوال في "السحر" الانتروبولوجي للأقلية الدرزية... 

(*) الافتتاح اليوم الثلاثاء 16 تموز/يوليو، الساعة السادسة مساء، في قصر بين الدين وفي رعاية وحضور وليد جنبلاط وسفير فرنسا في لبنان، على هامش مهرجانات بيت الدين التي تبدأ في 18 تموز/يوليو وتستمر حتى 10 آب/أغسطس 2019.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها