لا تسعى العريبي، بعد ذلك، إلى البحث عن سردية بديلة أو نقطة ثقل تقود فيلمها، تكتفى بشذرات على طول مسار خطي، لتبعثر الفريق، ومحاولات تجميعه مرات أخرى، وتأمين مكان تدريب له، ومقاطع من حياة عضواته، عملُ واحدة منهم في صيدلية، وبيتها المتقشف مع صورة ميسي المعلقة في غرفة المعيشة، وواحدة تعود من زيارة للولايات المتحدة، لتخبرهن بأنها جنة يذهب فيها الناس إلى المولات بالبيجامات، والأخرى المهجرة بسبب الحرب والتي تسكن مع عائلتها في بيوت مؤقتة ولا تحلم سوى بالرجوع، انقطاعات التيار الكهربائي المتكررة، أصوات الرصاص المفاجئة في الليل، أخبار التفجيرات، والنساء متحلقات حول التلفزيون يحصين أعداد القتلى ويترحمن على أيام القذافي، الجماهير تحتفل في الشوارع لفوز الفريق الوطني-الرجالي طبعاً- في أحدى المباريات.
في فرصة أخيرة، ينجح الفريق في الخروج، ليشارك في بطولة صغيرة في بيروت، ليس بوصفه المنتخب الوطني، بل كنادٍ خاص. كانت هذه هي الطريقة الوحيدة للخروج، أن يتبرأ الفريق من تمثيل بلده.
وفي أكثر أجزاء الفيلم كثافة، في بيروت، لا تتبدد الأحلام فقط بالهزائم المتتابعة التي ينالها الفريق ضعيف التدريب واللياقة، بل يحدث ما هو أسوأ. فالتوتر بين واحدة من اللاعبات والمسؤولة عن الفريق، والتي تفرض نظاماً حديدياً عليه، يتحول إلى عنف بدني، وتهديداً بالترحيل عنوة إلى ليبيا، وبكاءً وعويلاً. قذافي صغير يظهر فجأة، حرب أهلية محدودة يحملها الجميع معهم، تتسرب السلطوية والعنف إلى الفريق الهش، لتصبح الهزيمة في بيروت مضاعفة. ويتقلص الإحباط في نهاية الفيلم، فالفريق الذي يحل نفسه، تؤسس بعض عضواته جمعية أهلية للعمل مع الفتيات الصغيرات، وإلهامهن عبر كرة القدم.
بالنظر من أعلى، يحكي الفيلم قصة ما بعد الثورات العربية، وتحول الأحلام الطوباوية وخفوتها. يحكي عن الحياة في بلد يشهد مرحلة انتقال عسيرة، ونساء في قبضة حرب الأهلية. لكن، من داخل تفاصيل الفيلم، وكادرات العريبي البسيطة والكثيفة في آن واحد، نرى الأهم، نرى ليبيا لا نعرفها، غير تلك التي تغطي عليها أخبار المعارك المقتضبة في النشرات. نراها بعيون كاميرا تتحرك بحرية وسهولة في البيوت، وغرف تغيير الملابس بين المباريات، والبنات يرقصن في الباصات بين تدريب وآخر، وتعلو فيها صرخات البهجة بعد إحراز هدف والبكاء مع ضياع آخر، والجدّات يغنين للأحفاد أغاني تراث بديع لا نعرف عنه سوى القليل. يكشف لنا "حقول الحرية"، ليبيا أكبر مما نظن، وأعمق مما نعرف، وكذا ليبيا أكثر ظُلماً وأكثر رقة.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها