الثلاثاء 2019/06/04

آخر تحديث: 14:13 (بيروت)

زيارة كئيبة إلى ميدان سباق الخيل...بين التارسو والبريمو

الثلاثاء 2019/06/04
زيارة كئيبة إلى ميدان سباق الخيل...بين التارسو والبريمو
ميدان سباق الخيل في بيروت 1920
increase حجم الخط decrease
كانت الساعة قد تجاوزت الثانية من نهار الأحد 26 أيار الماضي، عندما تقدمت من فتحةٍ مستطيلة تسيّجها قضبان حديد في سور الحجارة الرملية العتيق المحيط بميدان سباق الخيل في بيروت. صوت يكتنفه القنوط والسأم وضباب الماضي، طلع من وراء القضبان: عادي بخمسة آلاف ليرة، والبريمو بـ15 ألف ليرة. في الداخل، على مدرجات الخمسة آلاف الإسمنتية المهملة والكئيبة المشرفة على ميدان السباق، نبهني مشهد جمهور الرجال المهدمين إلى أن الرجل الذي بالكاد لمحته يناولني بطاقة الدخول من الفتحة المستطيلة، عزف عن تسمية بطاقتي وجمهور مدرجاتها باسمهما الحقيقي أو الطبيعي: التارسو، في مقابل تسميته البطاقات الأخرى وجمهورها: البريمو. 

آنيّةٌ ملساء عقيمة
ربما حفاظًا على ماء وجه جمهور بطاقات التارسو ومدرجاتها، تعوّد بائع البطاقات وحرص على تسميتها عادية، على الرغم من ضآلة الفرق بين مدرجات التارسو وجمهورها من الرجال المسنين المهدمين، وبين مدرجات البريمو المصطفة عليها كراسٍ بلاستيكية بيضاء وجمهورها الرجال القليلين مع بضعة نساء رأيت إحداهن جالسةً على كرسي قرب السياج الحديد العالي المنتهي بأسياخ مسننة، للفصل العنيف بين نوعي المدرجات. شيء ما في هذه المرأة وشى بأنها فرنسية: ربما انفرادها الساكن مثل نظراتها وجمودها في جلستها على الكرسي، قبل كلمات فرنسية تبادلتها مع رجل "بريمو" متطفل على الأرجح.

ذكرني مشهدها وتطفّل الرجل بأخبار سمعتها من شبان بعلبكيين كانوا في الستينات والسبعينات اللبنانية يقفون على مداخل قلعة بعلبك الأثرية، ليعملوا أدلاء سياحيين، رغبةً منهم في أن تتخذهم سائحاتٌ أوروبيات منفردات أدلّاءَ لهن في القلعة، وأن ينشأ بينهم وبينهن تعارف يؤدي إلى صحبة عابرة أو صلة حميمة تستمر وتحمل السائحات على اصطحاب هذا الشاب البعلبكي الدليل أو ذاك إلى بلدانهن ومساكنتهم والزواج منهم، ومن ثم حيازتهم جنسيات أوروبية.

وفي مكوثي نحو ساعة بين جمهور التارسو على مدرجات ميدان سباق الخيل في ذاك الأحد، كان عليّ أن أنفض غبار الزمن عن ذاكرتي، لأستعيد أوقاتًا ومشاهد من ستينات بيروت وسبعيناتها، ربما ليقيني المريض بأن لا شيء قابل للفهم في لبنان اليوم من دون الرجوع إلى الماضي ومساءلته واستنطاقه. وهذا للخروج من آنيةٍ ملساء عقيمة يستغرق فيها لبنانيون يحسبون أنهم منقطعون عن الماضي أو أزاحوه جانبًا وتحرروا منه.

والحق أن ما أزيح جانبًا هو الروابط والأواصر التي انحلّت وتحلّلت بين الأشياء والظواهر والدوائر، فصارت جزرًا متباعدة بلا ماض ولا تاريخ، وطافية في سديم من الفوضى والتآكل: العمران والاجتماع، المناطق والطوائف، المؤسسات والقطاعات والدوائر الاجتماعية والقرارات الحكومية والإدارية، الأجيال والأهواء والأذواق والموضة والأزياء والأغاني والكلمات والمسلسلات التلفزيونية، الصحافة والإعلام والتعليم والمدارس والجامعات... كأنما هذه كلها وسواها لا جامع بينها سوى تلك الفوضى العامة والتفسخ والأنانيات المستفحلة كأرتال السيارات في زحمتها الساخطة الموتورة في شوارع مهملة متآكلة.



ميدان السباق وحرش العيد
ميدان سباق الخيل في بيروت واحد من المرافق في هذا السديم. وهو مستغرق في تحلله بعدما كان بين ثلاثينات القرن العشرين وستيناته مرفقًا بيروتيًا ولبنانيًا حيًا ونشيطًا ومتصلًا بنسيج الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ومؤسساتها ورجالاتها ومرافقها. فهو كان آنذاك منعقدًا لمصالح وأعمال وعلاقات وروابط وحياة ترفيهية تجمع بين فئات ودوائر اجتماعية وطبقية متباينة. كان يجمع بين أهل البريمو (أقطاب من عائلات أصحاب الخيول الأثرياء النافذين اجتماعيًا وسياسيًا) وأهل التارسو (سيّاس الخيول في اسطبلاتها ومدمني المراهنات من العامة وأهل الضعف والهوان). والمصطلحان إياهما كانا يستخدمان للتميز بين بعض صالات بيروت السينمائية وجمهورها التارسو في ساحة الشهداء وسواها الجديدة "النخبوية" أو البريمو في شارع الحمراء، وعندما كان يقال عن "وحش الشاشة العربية" فريد شوقي إنه "ملك التارسو". 

كان ميدان سباق الخيل البيروتي واللبناني في تلك الحقبة مرفقًا عامًا لاتصال هاتين الفئتين المتباعدتين طبقيًا واجتماعيًا وثقافيًا: سيّاس الخيول البعلبكيين في الإسطبلات المنتشرة بكثرة في الطيونة والشياح الغبيري وقصقص (وهذه الأخيرة كنية عائلة لملاك خيول واسطبلاتها، فصارت اسمًا لتلك المحلة البيروتية). وكان السيّاس يخرجون الخيول من الاسطبلات ويجرونها مغسولة أنيقة متهادية بعد السابعة صباحًا، إلى ميدان السباق، فيتصادى (من صدىً) على إسفلت الشوارع وفي أسماع سكان الأحياء وقع حوافرها المنتهية بحوذات معدنية. وفي الميدان كان السياس يضمرونها ويدربها الجوكيون (الجوكية) على الركض، ليعيدها السياس متعرقة الجلد مغبرة القوائم ومكسوة بالرمل إلى الاسطبلات بعد التاسعة، فيغسلونها ويدخلونها إلى بوكساتها المفروشة أرضها بنشارة خشب رطّبها البول والروث، ويضعون لها العلف، فتهنأ في التقوت والقيلولة، فيما ينصرف السياس إلى ألعاب الورق والداما في باحات اسطبلاتهم الظليلة. ومن الجوكيين ذاك الأرمني ليون، الذي كان يقيم مع شقيقته في بناية قديمة خلف معمل غندور، ويعود من الميدان إلى بيته مرتديًا زيه الخاص الضيق على جسمه النخيل كظلٍ، فيبدو في هيئة بهلوان خرج لتوه من سيرك.

كان ليون يشبه بهلوانيين هواة كانوا ينصبون لألعابهم في حرج بيروت قبالة ميدان السباق أكشاكا خشبية كبيرة أيام عيدي الفطر والأضحى. وكان بعضهم يؤدي ألعاب الخفة (السحر)، فيخرجون من أفواههم سلاسل من شفرات الحلاقة، أو ينفثون منها بنزينًا يشتعل كشهب تثير الخوف والاستهجان. وفي سوى أيام الأعياد كانت تحفّ بـــ "حرش العيد" أخبار عن عصب فتيان شوارع شرسين أشرار يجوبون الحرج فيتعاركون ويتطاعنون بالسكاكين وأمواس الحلاقة والبونات (مقابض حديد بحلقات متصلة تُدخَلُ فيها أصابع اليد)، أو يهاجمون عابرين فيضربونهم ويسلبونهم علب تبغ أو قطعًا وأوراقًا نقدية يحملونها. وكان أشهر هذه العصب "عصبة شهربان" (وشهربان اسم امرأة بعلبكية قوية الشكيمة في حي المصبغة في الشياح)، ومقدمها المدعو عقاب صقر (والد النائب الشاب السابق في البرلمان اللبناني، عقاب صقر)، الذي قتل على شرفه منزله في بدايات الحرب (1975). أما ميدان سباق الخيل فكان من جمله من يؤمه أيام السبت والأحد رجال من مدمني الحشيش والهوريين والمراهنات بليراتهم القليلة. وكان هؤلاء ينتشرون بين جمهور التارسو على مدرجات الميدان.



قطبا بيروت الحديثة
الحرب البادئة سنة 1975 في الشياح - عين الرمانة اقتلعت "حرش العيد" وقتلت أشجار صنوبر بيروت فخر الدين المعني الثاني المعمرة، وعطلت نشاط ميدان سباق الخيل، وقتلت فيه وفي الاسطبلات بعض الخيول، وشرّدت بعضها الآخر مع ملاكها من أبناء العائلات المتصلة كنياتهم العائلة اتصالًا حميمًا بالميدان والخيول وتربيتها في البقاع واسطبلات ضاحية بيروت الجنوبية، وبالسباقات، منذ بدايات الانتداب الفرنسي على لبنان. ومن أشهر هذه العائلات فستق (من أصل فلسطيني). وهنري فرعون (1901-1993) النائب والوزير في عهدي الانتداب والاستقلال. وكان إلى ملكيته عددًا كبيرًا من خيول السباق، قطب علاقات أهلية ومحلية وبمفاتيح انتخابية وقبضايات أحياء وعائلات سياس خيل في مناطق لبنانية متفرقة. وموسى دو فريج (1910-1987) والد النائب والوزير الأسبق نبيل دو فريج الذي تصدر مع ميشال فرعون إعادة إحياء نشاط ميدان السباق في مطلع تسعينات القرن العشرين، بعد توقفها في سني الحرب (1975-1990). 

اللافت أن هذه العائلات كانت قصورها، إلى جانب سواها من بعض أمثالها (شيحا، الخوري، الهبري، حنينة، وزيادة)، في محلة زقاق البلاط، الحي البيروتي "الأرستقراطي" المحدث والناهض عمرانًا ودورًا في القرن التاسع عشر الذي شهد تمدد بيروت العثمانية التقليدية إلى خارج أسوارها القديمة المفترضة. وفي النصف الثاني من ذاك القرن تكاثرت في زقاق البلاط المدارس الإرسالية، البروتستانتية خاصة، وإقامة بعثاتها مع النخب الأرمنية ومدارسها ما بعد الحرب العالمية الأولى، فاتصلت زقاق البلاط بالقنطاري ورأس بيروت وجامعتها الأميركية في شارع بلس، والتي استقطبت نخبًا من شبان عائلات فلسطينية وسورية وعراقية وخليجية. وربما كان للجامعة الأميركية في بيروت الدور الأبرز في غلبة الثقافة الإنكليزية أو الانغولوفونية على منطقة رأس بيروت، قطب الحداثة البيروتية منذ أربعينات القرن الماضي.

في مقلب بيروت الحديثة الآخر، في جنوبها الشرقي خارج أسوارها القديمة، ارتسمت معالم بيروت النخبة الفرنكوفونية منذ بدايات القرن التاسع عشر. وذلك أسفل تلة الأشرفية (حي السراسقة) وهبوطًا إلى التباريس والجميزة وصولًا إلى طريق الشام وجامعة القديس يوسف وميدان سباق الخيل والمتحف الوطني. وكانت عائلة سرسق وثروتها "المعولمة" وشبكة علاقات موسى سرسق (1870-1924) بالسلطنة العثمانية، من إعلام نهضة هذا القطب البيروتي الحديث. فموسى سرسق التزم في عشايا الحرب العالمية الأولى إنشاءات عثمانية كثيرة، منها ميدان سباق الخيل البيروتي وإلى جانبه كازينو، قبل استخدامه على هذا النحو اتخذه المندوب السامي الفرنسي مقرًا له ومنه أعلن قيام دولة لبنان الكبير عام 1921. أما الميدان ومنشآته فصار مرفقًا نشيطًا ومزدهرًا، وشملت أدواره ووظائفه شبكات متشعبة في بيروت وضاحيتها الجنوبية، وامتدادًا إلى البقاع (مزارع تربية الخيول).

الحرب الداخلية الملبننة منذ العام 1975، حوّلت ميدان سباق الخيل خط تماس في جولاتها المتعاقبة، ومقرًا لاجتماعات لجانها الأمنية ولتبادل المخطوفين والجثث، ومعبرًا للذل والمهانة في أوقات الهدنات الحربية الكئيبة. وسمي ذاك المعبر الفرنسكان باسم مدرسة شهيرة محاذية للميدان. وفي جدرانها فتحت فجوات لعابرين مهدمين يمشون خائفين مطأطئي الرؤوس، مغبري الوجوه، تائهي النظرات الفارغة، وفي صدورهم يأس أشد سوادًا من العدم. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها