الإثنين 2019/06/03

آخر تحديث: 18:00 (بيروت)

"يارا" عباس فاضل.. حب عذري في جنة لا تُداس

الإثنين 2019/06/03
increase حجم الخط decrease
بينما كان المخرج عباس فاضل يبحث عن مكان تصوير لفيلمه "يارا"، قُدّم له اقتراح بتصويره في وداي قاديشا، شمالي لبنان، مكان يحقق رغبته بتصوير الحكاية في "الطبيعة العذراء" على حد تعبيره، والتي لم يعثر عليها محققةً في الريف الفرنسي، كما بيّن عباس فاضل في اللقاء الخاص مع المخرج إثر العرض الأول للفيلم في بيروت.

من هذه الإفتتاحية التي تحدث بها المخرج عن فيلمه، يتبين لنا أن المكان هو أحد العناصر الرئيسية في هذا الفيلم. فموقع التصوير لم يكن مجرد خلفية لجريان أحداث الفيلم، بل كان أحد العناصر التي تريد الكاميرا أن ترويه. من هنا كان التركيز في الكثير من لقطات الفيلم على الجبال المكسوة بالكامل بالشجر الأخضر، في منزل بعيد من مظاهر الحضارة المدنية والعمرانية، معزول في وادي تكثر فيه ينابيع المياه ومسارات الأنهار، لتنتهي بشلال أسفل الوادي. اللقطات الأولى تظهر أنواع الحيوانات التي تعيش في محيط المنزل، الدجاج، الديكة، الأغنام والقطط، عدسة الفيلم تحاول ما أمكنها أن ترسم مكاناً أقرب إلى الصورة التي يكونها المخيال الشعبي عن الجنة، نجد نباتات خضراء في كل مكان، دالية العنب تغطي جدران المنزل، مساحة مزروعة من الخضروات تحيط بالبيت، وأشجار خضراء مثمرة تسوّر المكان.

في هذا المنزل القريب إلى حال الجنة، تعيش الشخصية الرئيسية "يارا" مع جدتها في طبيعة عذراء معزولة، بين الفترة والأخرى تأتي مجموعات سياحية لزيارة المنطقة، وتستمع بتناول الطعام في منزل الجدة التي تحصل على متطلباتها من الألبان والأجبان عن طريق أحد الجيران الذي يملك بغلة يوظفها لحمل الأغراض الصعبة الوجود في هذه الطبيعة، يحمّلها إلى منزل الجدة. وذات يوم، يمر بالمزرعة شاب أضاع طريقه نحو أعالي الجبل، ليتبادل حديثاً قصيراً مع يارا. إنه إلياس الذي يكتشف مكان الطبيعة العذراء بالمسير. حضور الذكر الغريب سيدفع يارا إلى إكتشاف أنوثتها، إنها الجملية العذراء التي تتحرك في نضجها وفي شكل جسدها بين الطفولة والبلوغ.

في الفيلم هناك علاقة مرآتية بين الطبيعة العذراء، وبين المرحلة العمرية والجسدية لشخصية يارا. إنها في فترة الإنتقال بين الجسد العذري والجسد في مرحلة الإستكشاف لأنوثته، في فترة التحول بين البراءة وبين المرأة. تصورها العديد من لقطات الفيلم بملابس النوم على السرير بألوان زاهية طفولية، تصورها وهي تمشط شعرها كأنها وعبر هذه العلاقة مع شعرها تستكشف جسدها، يتابعها المشاهد في العديد من المرات تضع المنيكور على أظافر يديها وقدميها بعناية، ليس في غرفتها إلا صور لمريم العذراء، علبة المكياج، وبندقية على الحائط، تبين عدد من حوارات الفيلم أنها أصبحت تحتاجها في شرط العيش في مكان معزول، فالبندقية للحماية من الحيوانات، ولكن أيضاً للحفاظ على العذرية من أي تلصص أو تحرش أو اعتداء.

مع تكرار زيارات إلياس إلى المكان، وتكرار لقاءاته مع يارا، تتركنا حكاية الفيلم، ومن دون سيناريو مكتوب، نستكشف تطور علاقة عاطفية في مرحلة المراهقة. الشاب والفتاة يتحدثان، يسيران بصمت لإستكشاف الأمكنة، يتبعان ما يعرف عن المراهقين بالنكاية، وإزعاج الآخر، السخرية منه والتهجم عليه كنوع من التعبير عن العاطفة. كذلك نرى إلياس يحاول مسك يد يارا، نتابع ذلك عبر ظليهما الساقطين على الأرض من أشعة الشمس. يطلب إلياس من يارا قبلة، فتسمح له بذلك. كلما استكشف هذان العاشقان المكان من حولهما، كلما تقاربت عواطفهما، يزوران شلال البحيرة أسفل الوادي، يدخلان إلى منزل مهجور لمجرد النوم قرب بعضهما البعض، يدخلان إلى الكنيسة العتيقة، وكذلك إلى المدرسة المهجورة، وعلى مقاعدها المهجورة يرسمان قلباً فوق الغبار ويسجلان بالقرب من الرسم اسميهما، تقول يارا: "لقد غادر معظم سكان القرية بيوتهم، هجروها أو تركوها دون عودة"، تنشأ بين إلياس ويارا نوع من علاقة الحب العذري، التي لا تتطور إلى الجنسانية، بل تبقى كما الطبيعة، وكما جمال يارا، حالة عذرية في اكتشاف رغبة التقرب من الآخر.

لكن الفيلم على مستوى الحكاية أو الحدث الدرامي لا يتحرك أبعد من ذلك، فعلى على مدار ساعة ونصف الساعة، تستمر الحكاية في حالة من الجمود. بيَّن المخرج في اللقاء الخاص معه عند عرض الفيلم، أنه استمر في التصوير بلا سيناريو محدد: "تطور الفيلم يوماً بيوم"، لكن هذه الطريقة في التعامل مع دور السيناريو في الفيلم السينمائي لم تكن موفقة لحكاية الفيلم، الذي تطلب حدثاً حكائياً أو درامياً يجعل من الفيلم قصة محبوكة ذات مغزى. لا تطورات في الأحداث، نعلم خلال الدقائق المتبقية من الفيلم أن والديّ يارا فارقا الحياة على إثر حادث سيارة، وفي الدقائق الأخيرة في الفيلم، يخبر إلياس حبيبته بأنه يحضر نفسه للسفر إلى استراليا، مستقبله هناك أفضل، على حد تعبيره. ترفض يارا الذهاب معه، وينتهي الفيلم درامياً على حالة الفراق بينهما. إنه الحب المستحيل مع الغريب، الذي لا يتمكن من الإكتمال. 

بالإضافة إلى الحكاية الخالية من الحبكة أو التصعيد الدرامي الذي يجعل منها ذات مغزى، نجد إهمالاً شديداً لعنصر الحوار في الفيلم. فالحوارات بين الشخصيات بدائية للغاية، تحيّي الشخصيات بعضها كلما التقت، يبدو الممثلون بلا شخصيات، لأنه لا وجود لحوارات مكتوبة كما بيَّن المخرج. يتحدثون كلما اجتمعوا عن الذباب حولهم، عن المزروعات، عن الحيوانات من الماعز والخنزير البري الذي يمر في كل ليلة بجانب البيت ويدمر المزروعات.

العلاقة بين يارا وجدتها، لم تعمق أو ترسم بعناية، فكلما اجتمعتا، هما اللتان تعيشان وحدهما منذ سنين، والذي من المفترض أن تكون حواراتهم مبنية على هذا الشرط الحكائي، نجدهما غريبتان، تسأل يارا جدتها ماذا تطبخ؟ هل أكلت؟ كيف تمضي نهارها؟ وحين يجري الحديث الوحيد عن والديّ يارا، تسأل يارا: هل كان يحب هنا؟، تقصد المكان، تجيب الجدة: طبعاً كان هذا منزله على هذا المستوى من عدم معرفة الآخر، تأخذنا الحوارات غير المكتوبة مسبقاً، وغير المبنية لتلائم حكاية الشخصيات، ما يدفعنا للقول إن خيار المخرج بعدم كتابة سيناريو للفيلم لم يكن موفقاً، لأن الممثلين بدوا حائرين بطبيعة الحوارات وتبادل الأحاديث بينهم في أغلب المشاهد.

مشكلة أخرى متعلقة بالثقافة التي ينحدر منها الممثلون – المدينة، والتي تتعارض مع ثقافة مكان الفيلم أي الطبيعة العذارء المعزولة – الريفية. فتبدو لغة الممثلة ميشيل وهبي، التي من المفترض أنها تعيش في الريف المعزول، مليئة بالمصطلحات والمفردات القادمة من ثقافة المدينة. يحمل المخرج ممثلة من صلب ثقافة المدينة ليطلب منها، ومن دون سيناريو دقيق، أداء شخصية ثقافة فتاة ريفية. هي لا تتقن أفعال العيش في مزرعة، فبينما حياة الزراعة من حولها مليئة بالأفعال اليومية، نرى شخصية يارا لا تقوم إلا بتسريح شعرها، تقليم أظافرها، قذف بعض الطعام للكلبة، وبعض الحبوب ليقتات الدجاج والديكة، من دون القيام بأي أفعال أخرى توحي بأنها ابنة ثقافة الزراعة والريف المعزول.

في فيلم "ركبة كلير" (1970) يقدم المخرج الفرنسي إيريك رومير أسلوبه في معالجة موضوعة الجمال المتأرجح بين البراءة والبلوغ. في صيف على شاطئ البحر، يفتن الرجل البالغ، جيروم، بجمال الفتاة كلير، التي تنتقل بين حياة الطفولة وجسد النضوج. تجري في "ركبة كلير" حوارات بين جيروم وبين صديقته المدام والتر، تناقش فيها الشخصيتان المثقفتان، طبيعة الجمال الأعذر الملتبس بين الطفولة والنضوج، جاذبية جمال البراءة والإنجذاب الذي يوّلده في أعين ونفوس البالغين، فتقودهما الأحاديث إلى تفسيرات حول الجمال العذري، حول الجنسانية، وحول الإنجذاب إلى البريء، وكذلك العديم الخبرة. لا يذهب بنا فيلم "يارا" إلى أبعد من تصوير الجمال العذري للطبيعة ولشخصيته الرئيسية، من دون أن يدفع هذا الجمال إلى مناقشة فكرية أو جدلية حكائية تدفع التيمة الأساسية للفيلم بأبعد من بدايتها.

(*) عُرض الفيلم للمرة الأولى في مهرجان لوكارنو السينمائي، ونالت خلاله الممثلة (ميشيل وهبة) جائزة أفضل ممثلة شابة. بدأت عروضه في 30 أيار 2019، في سينما ميتروبوليس - بيروت.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها