الخميس 2019/06/27

آخر تحديث: 18:01 (بيروت)

أنا الشعب!

الخميس 2019/06/27
أنا الشعب!
هكذا صار عون رئيساً و"بيّ الكل".. و"حزب الله" الدولة الأقوى في الجمهورية اللبنانية (أ ف ب)
increase حجم الخط decrease
صعود الخطاب العنصري والتمييزي في لبنان، التهميش السياسي الذي تتعرض له فئات/أحزاب/جماعات لبنانية تحت شعار "كل واحد وحجمه". ملف بلدية الحدت. السوشال ميديا اللبنانية المستعرة بالتهديدات والشتائم والتخوين. رُهاب الآخر والغريب. ترهيب ناشطين وصحافيين بالاستدعاءات الأمنية والقضائية. الشكل الذي تجلّت فيها إدارة الدولة وشؤونها مؤخراً، لا سيما الموازنة، والآن المجلس الدستوري، وسواهما من ملفات التعيينات والترقيات وصفقات المرافق العامة...

كل الظواهر هذه، والكثير من التفاصيل، تتوسل منظاراً جديداً لاستبيان المشهد السياسي والثقافي الراهن. منظار، يُضاف بالطبع إلى "الثوابت" التي لا غِنى عنها في السردية اللبنانية: النظام الطائفي، الصراعات والحروب الأهلية، التبدلات الاقتصادية والاجتماعية خصوصاً بعد "انتهاء" حرب 1975-1990، ومتواليات الهيمنة الثقافية منذ إعلان الاستقلال.

لكن، ومنذ انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية، يحتكّ اللبنانيون، أكثر من أي وقت مضى، بالشعبوية وخطابها، ويشهدون صعودها الصاروخي في الحُكم. ولئن عانت الشعبوية، كمفهوم، التباسات شتى، ونقصاً لافتاً في التنظير لها وتعريفها والإحاطة بخصائصها وسبل التعامل معها، فإن كتاب "ما هي الشعبوية؟" (2016)، لبروفسور العلوم السياسية في جامعة برينستون، جان فيرنر مولر، يبدو سَنداً مفيداً ههنا للأدوات اللبنانية المعهودة. 


يعتبر مولر أن الكلام السائد عن عداء الشعبوية للنخبة والاستابلشمنت، باعتباره مُحدِّداً أساسياً لفهم الشعبوية، ليس خالياً من وجاهة، لكنه ليس كافياً، إذ تزخر المؤسسة بالكثير مما يستوجب نقده بل وشجبه والعمل على تغييره. لذا، يذهب إلى مُحدِّد ثانٍ هو العداء للتعددية، إذ يزعم القائد أو الحزب الشعبوي بأنه يمثل الشعب "الحقيقي" تمثيلاً كاملاً وناجزاً، أخلاقياً وسياسياً واقتصادياً، وحصرياً أيضاً. وبالتالي، فإن مُنافسيه على درب حيازته الحكم، أي في الانتخابات مثلاً، فاسدون وغير جديرين. كما أن مُعارضيه، في حالة بلوغه الحكم، لا شرعية لهم، بل إنه لا يتوانى عن أبلستهم بشتى الطرق، وفي مقدمتها اتهامهم بمعاداة الشعب الذي لا ينطق باسمه وباسم مصالحه سوى القائد الشعبوي.

هنا، قد نفكّر في "شعوب" لبنانية هي الطوائف التي تتشارك نظام الحكم والإدارة في لبنان، وفقاً لمبدأ الحصص. ولعلنا نفكّر أيضاً بالدولة، أو بالنخبة الحاكمة، ليس كجهاز وطني، إداري وعسكري واقتصادي ورعائي، بل كشركة مساهمة لـ"الشعوب" اللبنانية التي تتوالى على السلطة بنِسَب تتغيّر بتغيّر المراحل وخريطة القوى. ولعله بات في الإمكان القول، بأريحية، أن اتفاق الطائف سقط، وإن كان هو الذي رتّب أمور الدولة اللبنانية وجماعاتها، منذ العام 1989، مُنهياً الحرب الأهلية بإعلان فوز المسلمين (السنّة للدولة والاقتصاد وإعادة الإعمار وبعض السياسة الداخلية والخارجية، والشيعة للأمن و"المقاومة" وبعض مؤسسات الدولة). بهذا المعنى، ظلت السُنّية الحريرية هي الاستابلشمنت الرسمية إلى حين اغتيال رفيق الحريري العام 2005. وظلّت شيعية "حزب الله"، هي الاستابلشمنت الموازية، بسلاحها وتمويلها واقتصادها وشبكاتها الاجتماعية ونموها العسكري والأمني، مع حضور شيعي مُصان لحركة أمل داخل الدولة. ومعلوم أن التيار العوني و"القوات اللبنانية" ظلّت مُبعدة ومُضطهدة طوال سنوات الوصاية السورية، وحتى العام 2005. شعبوية العونيين بدأت بذورها في رفض "الطائف"، وضمناً معاداة الحريرية والسنّة الذين اعتبرتهم قاضمي صلاحيات المسيحيين والموارنة. وتصاعدت الشعبوية العونية بخطاب تمثيل (شعب) المسيحيين تمثيلاً كاملاً (تقريباً)، وبالقول بلا تعددية يُعترف بها بجدية في الوسط المسيحي، وبأن العونيين وحدهم مَن سيستعيد الحقوق المسيحية المهدورة.

واليوم، يبدو واضحاً أن "الطائف" انهار، من دون الحاجة إلى إعلان انهياره رسمياً، بل لا رغبة في ذلك حفاظاً على "المناصفة" بين مسلمين ومسيحيين، مع إمكانية ليّ سائر بنوده. وما من داعٍ لمؤتمر تأسيسي جديد. المثالثة سالكة، والشعبوية تستمتع بأشعة الشمس. فالحريرية، بأثر من الحرب السورية والمتغيرات السعودية وبالتالي التغيرات اللبنانية، ما عادت الاستابلشمنت، بل زعامة جماعة لبنانية، مثلها مثل الباقين. همّها الوحيد، والذي تمكّنت حتى الآن وبفضل تحالفاتها الجديدة (على حساب القديمة) من الحفاظ عليه، هو حصرية تمثيلها لجماعتها. و"حزب الله" ما عاد الاستابلشمنت الموازية، بل صار ركناً شيعياً أساسياً في الاستابلشمنت الرسمية. والتيار العوني، برأسيه عون وباسيل، يكاد يحتكر التمثيل المسيحي. وبذلك، صار "تيار المستقبل" مشروعَ تيار شعبوي، و"حزب الله" الحاكم الشعبوي الفعلي من دون ضوضاء إلا في القضايا الكبرى، والعونيين وجه الحكم وهو وجه شعبوي بامتياز.

يشير مولر إلى أن الشعبوية غالباً ما تقفز فوق المؤسسات الديموقراطية الوسيطة بين السياسي والمواطنين، لكن هذا لا يعني مقاطعة الشعبوية بالكامل للمؤسسات والآليات الدولتية والديموقراطية. ففي الانتخابات مثلاً، إذا لم تأت النتائج في صالحه، فسيرشقها باتهامات وعلّات جوهرية، لا سيما الانتهاكات القانونية والتزوير. والانتخابات اللبنانية الأخيرة، فُصّلت تفصيلاً على مقاسات المثالثة، وإلا ما مرّ قانونها. ومع ذلك، الطعون سارية، وما حُسم منها (طرابلس مثالاً) حُسم أيضاً بخطاب شعبوي. والتشكيلة الحكومية عانت أزمة التفصيل ذاتها. لكن حين لا تثبت المؤسسات الوسيطة، جدارتها الشعبوية، فلا بد من تخطيها. فلتكن البلديات (كقرى حزبية وطائفية مصغرة لا كمجالس منتخبة) هي ظلّنا على أرض الشارع، تتخذ قراراتها بمعزل عن الدستور ومجلس النواب، على غرار ما صعد نجم بلدية "الحدت" باعتبارها النموذج العوني الأمثل... ولتكن التعيينات على غرار "انتخاب" أعضاء المجلس الدستوري.

الأمّة واحدة في الخطاب الشعبوي، الشعب كتلة متراصة، محقّة دوماً وبالضرورة، يختزلها الشعبوي في مطالبه ورؤيته. ومع ذلك، يصحّ أن يكون نصف الشعب هذا، خائناً أو فاسداً أو متآمراً على الشعب (نفسه)، في حال عارض الزعيم الشعبوي. هذا هو خطاب العونيين، في "الجينات اللبنانية" ومسارب الموازنة وصفقات النفط والكهرباء. وكذلك خطاب "حزب الله"، خصوصاً قبل دخوله المظفّر في الدولة. وبات أيضاً خطاب "المستقبل" في أزمته مع حلفائه القدامى.

والشعبوية، في الحكم، تلهث خلف الوظائف العامة لتزرع فيها مواليها. الإعلام والقضاء، تريدهما مسرحَين دائمَين لفنونها الإخراجية. الزبائنية لا بدّ منها، ولا شرّ فيها على الإطلاق، بل هي أبلغ تعابير الحب، حيث الزعيم الشعبوي يؤدي واجبه الطبيعي تجاه من يمثلهم ولأجل مصلحتهم، المفترض أنها المصلحة العامة، وهي نفسها رؤيته وخطته. والصورة اللبنانية هنا واضحة، يمكن لكل سائر في الشارع إعطاء عشرات الأمثلة عليها.

أما المجتمع المدني، من أحزاب ونقابات ومنظمات وجمعيات وهيئات مطلبية أو ناشطة في الشأن العام، فإن خرج بخطابه وأدائه – وطبعاً نقده – على إرادة الشعب، شعب القيادة الشعبوية، فهو لا ينتمي إليه، ويجب ردعه وتحجيمه إلى أقصى حد ممكن. في حين أن أنصار القائد/الحزب الشعبوي غالباً ما لا تهز يقينهم الفضائح، أو هكذا تحلم بهم قيادتهم. سقطات الفساد أو القمع أو الفشل في تحقيق وعود، هنّات صغيرة مهما كبرت، وقابلة للتجاوز. ذلك أن القائد/الحزب يتمتع بحصانة الفكرة، مبدأ تمثيل "الناس" والتصدي للمؤامرات التي تحاك ضدهم.

هكذا، فإن فشل "العهد القوي" في الملفات الاقتصادية والاجتماعية والإدارية، مضافاً إلى "بزنس" جبران باسيل والعديد من وزراء تياره، وصولاً إلى رئيس بلدية الحدت، لم تؤثّر في الخطاب العوني إلا في جعله أعلى صوتاً، ولم تؤثر في جمهوره، بل زادته عصبية. وكذلك "حزب الله"، من ملف المحكمة الدولية الخاصة بلبنان إلى الكارتيلات العابرة للحدود، وصولاً إلى دعاوى الإفلاس وتبييض الأموال. فهذه مؤامرات الغرب وإسرائيل التي لن تنال من المقاومة وهيبتها، ولا من تقديماتها، سواء الموازية للدولة أو المارّة عبرها. و"المستقبل"، في هذا المجال، قصصه قديمة جداً، لم تنتهِ بملفات مؤسساته الإعلامية والاجتماعية، ولا بمؤسسات وطنية يسيطر عليها ويحتكر تنفيعاتها. الطائفية، ونظامها، يعطيان تفسيرات وجيهة بالطبع، لكن إضافة سمات الشعبوية عليها يجعلها أكثر استدارة.

والحال، بحسب مولر، أنه، كلما ضعفت الكيانات المفترض بها تأدية دور الوساطة بين المجتمع التعددي والنظام السياسي، أكانت أحزاباً أو أشكالاً أخرى للمجتمع المدني، صعدت الشعبوية وازدادت تمكناً في الحكم. وإذا قلنا إن الطائفة، في لبنان، هي ذاك الوسيط، فإن الطائفة المارونية عانت كبوة بعد "الطائف". والطائفة الشيعية عانت كبوة خروج القوات السورية من لبنان. والطائفة السنية عانت اغتيال رفيق الحريري، ثم مآلات الثورة السورية، ومعها جفاف نهر الدعم السعودي. والأرجح أنه، هكذا، أصبح ميشال عون رئيساً للجمهورية و"بيّ الكل" و"العهد القوي"، وسعد الحريري رئيس حكومة يقوم رئيس الجمهورية بـ"كبسات" على جلساتها ليَنهَر أعضاءها، وجبران باسيل الرجل الأقوى في الدولة، و"حزب الله" الدولة الأقوى في الجمهورية اللبنانية الثانية. أما البقية، من "قوات لبنانية" إلى "كتائب" و"اشتراكي" و"أمل" و"مردة"... فلا تبدو بصدد تحالف "أقليات سياسية" يحفظ مساحاتها القديمة. ولا شعبوية تعينها، إلا ما يسّرته وسمحت به شعبويات الحُكم التي، وفي أي لحظة انحسار لـ"كَرَمها"، ستقلّص المقاعد على هامش الطاولة بحسب الحجم الذي ترتأيه لأصحابها، وهو لن يقاس إلا بمسطرة "أنا الشعب.. والشعب أنا".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها