الجمعة 2019/06/21

آخر تحديث: 01:36 (بيروت)

وارسو: عاصمة الأجلاف الرقيقين

الجمعة 2019/06/21
وارسو: عاصمة الأجلاف الرقيقين
شوبان في وراسو
increase حجم الخط decrease
"لماذا تذهب إلى هؤلاء الناس؟"، يسألني صديقي اللندني عن رحلتي إلى وارسو وعلى وجهه علامات الاستنكار، ولم أمتلك إجابة واضحة. حتى وقت قريب، كان 1 من 9 يعيشون في العاصمة البريطانية، قد ولد في بولندا. وبين تلاميذ المدارس، تأتي اللغة البولندية ثانية بعد الإنكليزية. وقبل عامين تخطى البولنديون، المهاجرين الهنود، ليصبحوا الجالية الأكبر في بريطانيا.

لا ترتبط صورة بولندا هنا سوى بعمال البناء مفتولي العضلات، يكدون ساعات طويلة في النهار ويتطوحون من السُّكر الشديد في الليل. خشونة مع جلافة سلافية طيبة وكثير من السجق. أما النساء، فشقراوات، لا تعرف الابتسامة طريقاً إلى وجوههن، يعملن في حقول الفراولة في موسم الحصاد أو في أعمال النظافة المنزلية طوال العام. وفي بقية أوروبا الغربية، لا تختلف الصورة كثيراً. مرة، أخبرني زوجان ألمانيان متقاعدان، بقناعة صادقة، أن النصف مليون بولندي المقيمين في بلادهم جميعهم من لصوص السيارات، أما الألمان ممن ولدوا في الشرق فبعضهم مازال يتذكر كيف كانت بولندا جنة الكتلة الشيوعية، حيث كان يمكنهم عند زيارتها شراء الموز بأي كمية يرغبون، والشوكولاتة أيضاً كان يباع منها أكثر من نوع واحد.

لكن بولندا في العيون الأوروبية الغربية، ليست مجرد عمالة رخيصة ولصوص. فالإعلام لطالما صوّر الصعود اليميني هناك بوصفه خطراً داهماً، فاليمين خطر بالطبع، لكن إن كان شرق أوروبي فهو خطر مضاعف. فهناك شيء يستدعي قدراً إضافياً من الخوف دائماً من جهة الشرق، أو على الأقل النفور. 

تبدد العاصمة البولندية بلطف كل تلك التصورات، بمجرد الوصول إلى مطارها الكبير، والذي يحمل اسم مؤلف الموسيقى الكلاسيكية، "شوبان". ووارسو ليست الوحيدة بالتأكيد في احتفائها بالموسيقى. فمطار مدينة ليفربول مثلاً، يحمل اسم جون لينون عضو فرقة البيتلز، وبارما الإيطالية يطلق اسم "فيردي" على مطارها، وفي سالزبورغ بالنمسا هناك مطار يحمل اسم "موتزارت". لكن وارسو هي العاصمة الوحيدة في العالم التي يحمل مطارها اسم مؤلف موسيقي. فشوبان الذي تقدم عشرات القاعات حفلات يومية لموسيقاه في المدينة، ليس مجرد بولندي حقق شهرة واسعة في باريس في الفترة الرومانسية، ونال صك الاعتراف الأوروبي. بل واحد من جيل "الهجرة الكبرى" الذي خرج من بولندا بعد سحق "انتفاضة 1830" ضد القيصرية الروسية، ومن رواد الإحياء القومي، فموسيقاه الناعمة المتأثرة بالفولكلور الشعبي لوطنه الأم كما يقولون هي "مدافع مدفونة بين الزهور". مات شوبان في المنفى، مثله مثل آلاف البولنديين من أجيال متتابعة من الهجرة، ويمكن بالطبع زيارة مقبرته في باريس، لكن النقش على أحد الأنصبة التذكارية المخصصة له في وارسو يقول: "هنا يرقد قلب فريدريك شوبان". 

تفتح وارسو قلبها بسرعة لزوارها وهي تتباهى بتاريخها بلا مبالغة ولا ادعاء. فغير الأنصبة والتماثيل والمتحف، المخصصة كلها لشوبان، وتمثال أو أكثر للبابا يوحنا بولس الثالث، يقف تمثال لكوبرنيكوس، أمام أكاديمية العلوم، مع متحف له أيضاً، للتذكير بالمساهمة البولندية التي قلَبت تصوراتنا عن شكل الكون وموضعنا فيه. وعلى بعد نصف ساعة من التمشية من نصب الثورة الكوبرنيكية، يقف على خراج المدينة القديمة، تذكار لثورة علمية أخرى، متحف ماري كوري، أول أمرأه تفوز بنوبل، والوحيدة التي فازت بها مرتين ولفرعين مختلفين من العلوم، والتي بفضلها يطلق اسم بولندا على أحد عناصر الجدول الدوري المشعة، "البولونيوم".

دمر النازيون سبعين في المئة من مباني المدينة وبنيتها التحتية، أثناء احتلالها. كان هتلر لا يرى فيها سوى محطة ضخمة لتلاقي خطوط القطارات الآتية من الشرق إلى وسط أوروبا. وأثناء انتفاضة وارسو العام 1944، حطم الألمان مبانيها واحداً واحداً، من باب الانتقام، وهجّروا سكانها بالكامل، وهذا أمر لم يحدث لأي عاصمة أوروبية أخرى أثناء الحرب. ولكل الخراب، تدين وارسو اليوم بجمالها. فبعد دخول السوفيات، أعاد البولنديون إعمار المدينة وكأنهم يبنونها من البداية، بتخطيط حديث ومتوازن، بمساحات خضراء، تغطي ثلث مساحتها، وقد جعلتها واحدة من أكثر عواصم العالم خُضرة، وبتوزيع سكاني جعلها من أقلها تركّزاً سكانياً، وتم الحفاظ على ضفتي نهر فيستولا الذي يشقها من الوسط خاليتين من المباني تقريباً. وفي المساء، يبدو كأن المدينة النظيفة والمنمقة كلها تتوجه إلى هناك، نصف أهلها يجلسون على درجات الضفة التي تهبط نحو الماء كسلَّم، والنصف الآخر في الضفة المقابلة المغطاة بالرمال ونيران حفلات الشواء على خلفية من الغابات كثيفة الأشجار، وعلى الجسور بين الضفتين آلاف البشر يتدفقون كتيار هادئ ووقور لا يتوقف.

ليس في وارسو معلم يرتبط في الأذهان بها أو رمز بصري يمثلها. فقصر العلوم والفنون، أعلى مبنى في المدينة من العصر الشيوعي، والذي يطلق عليه سكانها تهكماً "قضيب ستالين"، يشبه غيره من أبراج بُنيت على الطراز نفسه في موسكو وغيرها من العواصم الشيوعية السابقة. وجنّية البحر التي تحمل سيفاً في يدها، رمز المدينة الرسمي، فغالباً لا أحد يعرف عنها شيئاً خارجها. ومع هذا، تترك المدينة في زوارها أثراً لا يزول بسهولة. فأصوات الموسيقى الكلاسيكية، وغناء الجوقات المتسرب من قاعاتها الصغيرة إلى الشوارع، لينتشر بهدوء في شبكة حدائقها، وفيض البشر الودود الذي يجمّل ضفتي نهرها وهم في أفضل زينة كل ليلة، جميعها تبدو كسخرية واثقة من كل التنميطات ضيقة الأفق. والأهم، نصب فريد للانتصار على الخراب.  
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها