الخميس 2019/06/20

آخر تحديث: 19:52 (بيروت)

الحدت كتجهيز فني

الخميس 2019/06/20
الحدت كتجهيز فني
ساحة شهداء الحدت (ريشار سمور)
increase حجم الخط decrease

رغم أنها حقيقية جداً، أرضيّة جداً، فقيرة المخيلة، ومتوقَّعة كنِتاج لبنانَوي محض – بل ربما لهذه الأسباب بالذات – يبدو مناسباً جداً التفكير في حالة منطقة الحدت كتجهيز فني كبير، لفنان عَونيّ، فاز بالمرتبة الأولى في مسابقة "ماذا يعني لك تفاهم حزب الله والتيار الوطني الحر؟ إصنع مجسّماً حيوياً مُعبِّراً".

وبقدر ما يبدو المنظار المقترح هذا ساخراً أو تهكمياً (ولعلها نتيجة فرعية ممتعة لاستخدامه)، إلا أنه في الحقيقة ذو جدوى في وضع الرؤية العونية، لنفسها ولحليفها ولخصومها، في مكانها المستَحَقّ. كما يجيز التمعن في "الحالة الحدتية" باعتبارها تمثيلاً (Representation) مكثفاً لهذه الرؤية، لأنها في الواقع، ليست استثناء لبنانياً، ولا استثناء طائفياً. وفي الوقت نفسه، تكاد تكون فريدة في صلافتها وحَرفِيّتها المَدرَسيّة في تطبيق إيديولوجيتها. ليس لأن الجماعات اللبنانية الأخرى أفضل حالاً، بل لأن "العونية الحدتية" تمارس هذا كله مغلّفاً بادعاءات المظلومية والتفوق مجتمعَين، مستلهمةً تجربة "حزب الله"، في نسخة رديئة، يدعمها الحزب نفسه، ويتواطأ معها أو يعجز إزاءها الآخرون.

فالجدل الذي أثاره رئيس بلدية الحدت، جورج عون، خلال اليومين الماضيين، بكلامه عن قرار متخذ منذ العام 2010 ومستمر المفاعيل، بعدم بيع أو تأجير العقارات في المنطقة لغير المسيحيين، وبتمسّكه بهذا القرار الذي يؤكد، وبكل صراحة، على أنه ما زال يحظى ببركة حسن نصر الله، يتوسل التعامل مع هذا القرار الفجّ على أنه مدماك أساس في بناء معنى التفاهم بين حزب الله والتيار العوني. وليس أدلّ على ذلك من تغريدة النائب العوني، حكمت ديب: "من تفاهم مار مخايل (2006) إلى تفاهم الحدت (2010)، الهدف واحد: بقاء المسيحيين في أرضهم حرصاً على العيش المشترك".

فالعونيّ يرى العيش المشترك، عيشاً نابذاً لكل آخر، ما استطاع، صافياً مصفّى، والشريك هو الذي يدعم هذه الرؤية، وليس من يقاسمه "أرضه". وإذا كان تفاهم مار مخايل قد أرسى التحالف السياسي، بتغطية حروب الحزب مسيحياً في الداخل اللبناني، ومؤازرته وكسر عزلته في المحافل الدولية عبر وزارة الخارجية ولاحقاً رئاسة الجمهورية، والتطبيع مع نظام الأسد، في مقابل مكاسب للتيار في الحصص والدولة والصفقات والانتخابات... فإن تفاهم الحدت، أرسى التحالف الثقافي، على قاعدة: لكلٍّ ثقافته.. ومتحالفون من أجل قِسمة مريحة "للحفاظ على العلاقات المميزة بين البيئتين الشيعية والمسيحية"، على ما صرّح جورج عون. وبكلام آخر: حليفنا هو الذي يشدّ على أيدينا في إبقائه خارجنا، وفي خارجنا نخدمه بعيوننا.

والأزمة التي فجّرها رئيس البلدية، أكثر من مرة، خلال السنوات الماضية، وفي هذا الموضوع بالذات، لم تكن الإشارة الأولى أو الوحيدة للحالة الحدتية.

ففي الحدت، يفاخر مسيحيو التيار البرتقالي بنجاحات "سيادية" في طرد العمّال السوريين (إلا في حالاتٍ تُوافِق مصالح أرباب العمل). نجاحات سعت إليها بلديات عديدة، في مختلف المناطق اللبنانية، لكن أياً منها لم يجرؤ على علانية "إنجازات" الحدت، و"سوبرانو" خطابها، والدرجة التنظيمية العالية التي تجلّت في الحملة الأخيرة لشباب "التيار" في الشوارع تحت شعار "بتحب لبنان.. وظّف لبناني".

ومن بلدية الحدت التي استضافته في عشاء تكريمي، تحدث جبران باسيل عن "المنطقة المقاومة" (في استعادة لصورتها خلال الحرب الأهلية) و"بلدية مقاومة" (محتفياً بقرار العام 2010 كما بطرد العمال الأجانب)، وأعلن تنظيم مؤتمر البلديات الذي عاد وألقى فيه خطاب الذروة، بعد خطاب "الجينات اللبنانية".

وفي الحدت أيضاً، مستهل العام 2018، ظهر سلاح "التيار الوطني الحر" في الشارع، للمرة الأولى منذ زمن طويل، على خلفية الكلام النابي الذي استهدف به باسيل الرئيس بري آنذاك. فجرى إطلاق نار في أجواء المنطقة من موكب سيارات ودراجات نارية تحمل أعلام "حركة أمل"، ثم ظهر سلاح شباب "التيار" من أجل "الدفاع عن النفس".

هكذا، تبدو الحالة الحدتية عملاً تمثيلياً بامتياز، حيث الحدتيين العونيين، وهُم أيضاً السلطة المحلية، ينتجون للتفاهُم معناه العوني. وبلُغتهم وأنظمتهم المعرفية (تصورهم عن لُبنانهم، عن "التيار" وقائده والمنتسبين إليه ومناصريه، تصورهم عن المسيحي والمسلم، عن الحكم والإدارات المحلية، عن قوتهم التي يجب أن تماثل قوة حليفهم وخصمهم وبالرداءة ذاتها، بمتعلّميهم وجهلَتهم، بأطبائهم ومهندسيهم ومحاميهم وتجّارهم وصغار كَسَبتهم، بلافتاتهم في الطرق وإعلامهم ونِكاتهم، بفهمهم للسيادة والحقوق...)، يخلقون الدلالة ويضعونها في التداول. وقد تمسي للمعنى وعملية إنتاجه، حين يخرجان إلى الحيز العام، حياة خاصة بهما، وهذا ما حصل في الحدت. فلا يعود هذا المعنى، حُكماً، صورةً عن أصل، أو تجسيداً لفكرة. بل قد يتجاوز منشَأَه ليستقل بذاته، مُظللاً أي معنى محتمل آخر، بعدما جزَّأ الأصل، وكثّفه على هوى دون سواه. والأصل ليس بالضرورة أجمل.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها