الثلاثاء 2019/06/18

آخر تحديث: 14:17 (بيروت)

وجوه كريكور أفيسيان: زلزال أرمينيا وحطامه

الثلاثاء 2019/06/18
وجوه كريكور أفيسيان: زلزال أرمينيا وحطامه
استلهام الخراب
increase حجم الخط decrease
في العام 1988، ضربت هزة أرضية منطقة "سبيداك" في أرمينيا، مخلفةً، حسب التقارير الرسمية، بين 25 و30 ألف ضحية. اعتُبر هذا الزلال من الأقوى على مقياس 6.9 ريختر، وقد أزال أكثر من 90% من أهم المدن الأرمينية. عايش الفنان الأرمني اللبناني كريكور أفيسيان هذه التجربة، التي يخبر عن تأثيرها: "لم أندفع مباشرةً لتحقيق أعمال تجلب الشفقة والتعاطف، لكن معايشة الكارثة أثّرت في طريقة عملي وأفكاري وعلاقتي مع المواد التي أصنع منها أعمالي".

كتب الفنان في تقديم معرضه "40 شمالاً، 44 شرقاً": "بعد الكارثة، أخذت أعمالي منحىً جديداً، فبدأت بتصميمها بدقة ولم أعد اعتمد على الإرتجال. اكتشفت أنني رحت أصمم منحوتات ولوحات ذات بُعد واحد، وأهرب ما أمكنني من الأعمال والأشكال ذات البُعدين"... هكذا وجد الفنان نفسه، يتعامل مع الأشكال والمواد بحساسية جديدة، نحت أعماله بإتجاه الروليف، واستعمل مواد متعددة لإعادة التعبير عن مشاهد الحطام والركام التي علقت في ذاكرته..

"أصبحت أعمالي وكأنها محاولة لإعادة تركيب الحطام، كأنها محاولة نفخ الروح في الحطام والدمار" يقول الفنان، ويعنون معرضه بالإحداثيات الجغرافية لموقع وقوع الزلزال على الخريطة (40 درجة خط الشمال، 44 درجة شرقاً)، وبالزمن الذي استغرقته الهزة الأرضية، عناوين من قبيل: "الثانية الأولى و12 جزءاً من الثانية، الثانية الرابعة و30 جزءاً من الثانية"، فقد استمر الزلزال حينها ما يقارب العشرين ثانية، وزع كريكور أفيسيان أرقامها كعناوين للوحاته ومنحوتاته.

تغلب على أعمال المعرض الحالي، والتي تقارب الخمسين عملاً بين منحوتات ولوحات منفذة بوسائط متعددة، موضوعة البورتريه. هي وجوه تلاحق الزائر أينما تأمل في أعمال المعرض، أعمال تلغي البُعدين لصالح البُعد الواحد. يشعر المتلقي بأنها مستلهمة من الأجساد والوجوه الخارجة من الحطام، كما لو أنها مهروسة، أو مكوية لتخسر عمقها وارتفاعها. وبمقدار ما تمتعنا هذه البورتريهات ببُعدها الجمالي، بمقدار ما تذكّر المتلقي بقسوة تجربة الموت دهساً تحت الركام والأنقاض، حيث تتشوه الملامح، تتكسر العظام، ويقفد الوجه الإنساني معالمه السابقة لتصبح مبعثرة كالجرائد المجعلكة، كما توحي لوحات المعرض.

وجوه متألمة، وجوه تتأوه، وجوه ضاحكة، هي كلها تعابير الضحايا في اللحظات الأخيرة قبل مفارقة الموت، ارتسمت على وجوه لتشكل لوحات المعرض المفجعة، المؤثرة، والمبهرة تقنياً في الآن عينه. تتنوع تعابير الوجوه المقدمة، كما تتنوع تعابير الموتى في لحظاتهم الأخيرة، وهي تتنوع أيضاً بمقدار ما تراها عين الفنان. تصبح اللوحات معبَراً ينقل عين الفنان إلى عين الناظر إلى اللوحة. فتأمُّل تشكيلات اللوحة يعني تأمُّل وجوه الضحايا، كما تأمَّلها الفنان سابقاً بين آثار الخراب والدمار، في أشلاء الجثث.

يستعمل كريكور أفيسيان مواد متعددة في تنفيذ اللوحات والمنحوتات، الحديد، ورق الكرتون، الورق المقوى، القماش، وبعد تركيبها مع بعضها البعض، يعمل على تلوينها، لتشكل كل مادة منها كتلة هندسية في تشكيل المنحوتة أو الوجه الكلي داخل اللوحة. لكن تحقيق رغبته في تقديم الأعمال متخليةً عن البُعدين، يتطلب جهداً دقيقاً في إعادة كبس العمل المنجز وتقديمه ببُعده الواحد. هذه الطريقة تتطلب عناية دقيقة بالتشكيل الفني الناتج عن كامل العملية، فنجد في المعرض بورتريه كبيراً من الحديد خضع لهذه العملية يتوسط الصالة، ونجد أيضاً داخل اللوحات منحوتات من الورق والكرتون والحديد تبدو وكأنها رسوم تعبيرية، بينما هي منحوتات داخل اللوحة.

لا توحي أشكال كريكور أفيسيان بالوجوه فقط، بل توحي أيضاً بأجسام فاقدة للحياة مبعثرة الأطراف، بخرائط مدن منكوبة، بأشياء سحقت تحت الركام وتموضعت فوق بعضها البعض، ببقايا الكارثة من الحطام والدمار، وكذلك بنباتات أو حيوانات بدائية من تلك التي تُرسم في مغاور الكهوف.

تذكِّر الأشكال النهائية الظاهرة في لوحات ومنحوتات المعرض، باللوحات المنتمية إلى المدرسة التعبيرية. مشاعر مفجوعة، تعابير قاسية، ووجوه متألمة. وكذلك من حيث الحضور الكثيف للألوان الداكنة بتنويعات البني، الأسود، النحاسي، مع القليل من المساحات باللون الأبيض، والألوان الفاتحة التي تفيد في تشكيل الرسم، وفي إيجاد توازن كتل الأنوار والظلال.

لدينا العديد من الأمثلة في تاريخ الفن التشكيلي التي تستلهم الكارثة، لكن أبرزها لوحة "الغرنيكا" لبابلو بيكاسو، التي رسمها في العام 1937، واستوحاها من بالقصف العسكري لمدينة غرنيكا – الباسك خلال الحرب الأهلية الإسبانية. هذه اللوحة أيضاً تقترب من فن الروليف، وهي تظهر أجساداً تفرقت أشلاء، ووجوهاً في لحظات الألم والموت، وحيوانات مقطوعة الرؤوس والأجذع. لكن لوحة بيكاسو رسمت بالألوان الزيتية على قماش، أما أعمال معرض كريكور أفيسيان فهي أقرب إلى منحوتات وضعت داخل إطار لتقدم كلوحة.
مؤخراً، قُدمت معارض عديدة في مدينة تستلهم المباني المدمرة التي خلفتها الحرب كأماكن لعرض أعمال فنية ومعارض تشكيلية. كان أولها مع الفنان البريطاني توم يونغ في "فندق صوفر الكبير"، الذي حوّل بناء الفندق المنكوب إلى فضاء فني يعرض من خلاله أعماله. كذلك يُستعمل كل من مبنى "سينما البيضة" ومبنى "بيت بيروت" الباقيين من زمن الحرب، كفضاءات لمعارض تشكيلية ونشاطات ثقافية. ويبين الكاتب حسن الساحلي في "بورنو الخراب" أن نزوع استلهام الخراب، كان واضحاً لدى العديد من الفنانين اللبنانيين في التسعينيات من القرن العشرين، ويعيد الكاتب جذور هذا الميل الفني إلى تعامل الفنانين الأميركيين مع مدينة ديترويت التي عانت تكاثر أبنيتها المهجورة والمتروكة في الخمسينيات من القرن الماضي بسبب الأزمات الإقتصادية المتلاحقة التي عاشتها المدينة الأميركية في تلك المرحلة.

معرض "40 درجة شمالاً، و44 درجة شرقاً" لكريكور أفيسيان، يقدم نموذجاً لإستلهام الكارثة، وأفكاراً في التلاعب بين البُعد المأسوي لموضوعات الفن وبُعدها الجمالي. تقدم لوحاته ومنحوتاته نموذجاً للتأمل من قبل فناني المنطقة العربية التي تعاني الكثير من مظاهر الخراب والدمار في فترة الأحداث السياسية الحالية، كما في سوريا والعراق وليبيا وغيرها من الدول التي تعاني الصراعات المسلحة. وبينما يعالج أفيسيان كارثة طبيعية، يُجبر الفنان العربي على إستلهام كوراث يجلبها البشر على بعضهم البعض في هذه المنطقة.

(*) يُقام المعرض في غاليري (392 الرميل 393 – بيروت)، ويستمر حتى 20 حزيران/يونيو الحالي.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها