الجمعة 2019/06/14

آخر تحديث: 13:39 (بيروت)

الاتصال والانفصال... سياسات الاستعارات والمجازات

الجمعة 2019/06/14
الاتصال والانفصال... سياسات الاستعارات والمجازات
"جسم الإسلام الكبير" على قول السيد حسين الموسوي
increase حجم الخط decrease
أدت الاستعارات والمجازات اللغوية والبلاغية والخطابية دوراً من العسير تقديره في تسويغ سياسة الجماعة الخمينية (في لبنان، وليس اللبنانية إلا اتفاقاً) أواخر العقد الثامن من القرن الماضي وأوائل التاسع، وتبرير أعمالها العسكرية، يومها ومذ ذاك. فالأعوام التي كان أولها في 1982، عام الحملة الاسرائيلية على أراضي الدولة اللبنانية وأهاليها، والعام 2000، تاريخ الجلاء الاسرائيلي عن الجيب الأخير، آخرها- جاءت في أعقاب فصل من نحو عشرة أعوام، 1971-1982، خلخلت حوادثه أركان اجتماع اللبنانيين ومراتب هذا الاجتماع وإجماعاته ومنازعاته وعلاقاته (عطفاً على مقال الكاتب في 1/6/2019، المدن). وفرقت الأعمال العسكرية التي تبادلتها المنظمات العسكرية المسلحة والسياسية، المهاجرة والمهجرة من فلسطين والاردن وسوريا والعراق وغيرها، والدولة العبرية، الجماعات والشيع اللبنانية. وسلطت على انقساماتها السابقة، والمتغيرة الخطوط والموازين، عاملاً راجحاً هيمن على العوامل المتحدرة من العقود الماضية.

العلة القومية والعلة الاجتماعية
وقدَّر كثيرون، في 1982، شأن آخرين مثلهم غداة 1958 واوائل السبعينات عشية الانفجار، أن اللبنانيين اعتادوا العيش في "رخاء" - يلزم وصفه وتقييده بـ"نسبي"، وليس "مطلقاً"(!) وعلى هذا المنوال ينبغي إجراء القول في الحرية أو الحريات التي "ينعمون" بها- أو في "مجتمع استهلاك" على قول اجتماعياتي (سوسيولوجي). ويحول هذا الاعتياد بينهم وبين الانسياق وراء نازع إلى تصفية خلافاتهم الأهلية بالاقتتال والاحتراب. فحين تداولت كتل ومجموعات سياسية متفرقة، في أوائل العشر السابع، توقعات وأفكاراً في أحوال اللبنانيين الآتية، كان انفجار النزاع الأهلي باباً من أبواب التوقعات والأفكار هذه. وذهب معظم المتداولين، مجربيهم وأغرارهم، صغار بورجوازييهم وذوي الدخل المحدود منهم، مسلميهم ومسيحييهم، إلى "استحالة" تجدد الاقتتال. وحجتهم كانت حجة "أجدادهم" أو "آبائهم" الصلحيين، ابن عم رياض الصلح، الذي كتب في 1936 أن المسلمين الذي قطفوا منذ 1920 ثمرات "الانفصال" عن الداخلية السورية لا يرغبون في "الاتصال" أو الاندماج في الداخل العربي، على خلاف ميولهم، ميول مسلميهم، قبل عقد ونصف العقد من السنين حين إعلان "لبنان الكبير" وغداته. فأرسى قبول من يحسب أنه يعلن سريرتهم، وهم مسلمو مدن الساحل السنة، على العوائد الاجتماعية التي ترتبت على "الالتحاق" بلبنان. ففي كلتا الحالين ظن جيلان من الشباب أن العلة أو الكفة الاجتماعية تغلب العلة السياسية "القومية" في ميزان التعريف بالنفس والاختيارات السياسية العميقة.


والقول إن الجزء المنفصل- الدولة اللبنانية المؤلفة من جبل لبنان ومدن الساحل والأقضية الأربعة المضمومة او الملحقة- في خير، وانفصاله يعود عليه بعافية اقتصادية واجتماعية مشهودة، يتجنب الرد المباشر والصريح على دعوى الاقتطاع والاصطناع غير الطبيعيين ولا المشروعين.

وإن صح هذا التعليل فهو "كاذب"، على مذهب الاتصاليين. فالمسألة أساساً ليست مسألة مستوى معيشة ولا مسألة حدود ورقعة، بل "قضية وجود"، على قول إنعام رعد، "السوري القومي- الاجتماعي". والمثال الذي أُشهد على حقيقة الأمر هو الصين وهونغ كونغ، وفرق ما بينهما وجودياً وتاريخياً. فهونغ كونغ وضيعة، على رغم ثقافتها السياسية الحقوقية وحرياتها، واحتكام إداراتها إلى إرادات مواطنيها، ورخاء سكانها. أما الصين فعظيمة عظم سورها ورقعتها وفتوحها وتهديدها جيرانها والقوى العظمى (من مقالات سادت في الستينات والسبعينات). وتصح المقارنة مع "جسم الإسلام الكبير" على قول السيد حسين الموسوي البعلبكي رداً على النقاط العشر التي أقرت بلبنان "وطناً نهائياً".

والترجح بين حدي الاستعارة الراسخة، الانفصال والاتصال (ومرادفاتها الكثيرة: الانعزال والاتحاد، التجزئة والوحدة، العمالة والتحرر، "الدولة الوطنية أولاً" ومقاومة الامبريالية...)، يحول دون إرساء وطنية السياسة الجامعة على ركنيها: فارق العدو من الصديق، ووليّ حال الطوارئ ومعلنها. ويجدد جدال اليوم وسجاله فيمن هو أولى بالعداوة "العربية" وتصدرها: إيران الخامنئية والحرسية (ومن ورائها إيران الفارسية منذ قوروش إلى محمد رضا بهلوي... وبينهما اسماعيل الصفوي) أم إسرائيل نتانياهو وترامب (ومن ورائها قتلة الأنبياء ومحرفو الكلم عن مواضعه وصانعو خبز الأزيم بدم الأولاد ومغتصبو الشعوب...) الخلاف على عوامل التعريف السياسي والتاريخي.

ويدور الخلاف الجوهري الثاني على المرجع الذي يعود إليه أولاً وأخيراً إعلان الحرب وقانونها العرفي وتقييد الأصوات المعارضة وإسكاتها حين إعلانها، وحشد موارد الدولة في الحرب المعلنة. وهذا كله تلقائياً ومن غير مشورة "الشركاء في الوطن"، على ما حصل في 7-8/2006، ويحصل كل يوم فيما لا يحصى من المسائل. فـ"ولي الأمر"، أو "أولوه"، وهم المؤمنون- الرعايا (والمواطنون على سبيل الشبه والحمل على المعنى) ومبايعوهم على رئاسة غير مقيدة، لا في حربها ولا في سلمها، لا في "تنميتها" ولا في نهبها، لا في عداواتها ولا في أحلافها، ببرامج أو عهود أو عقود. فهذه تليق بـ"الشعوب" الهزيلة التي تنشد السلام، وترضى بالمساومة، وتنتخب رؤساء يقتصرون على ولاية واحدة أو على تجديد واحد.

و"الصداقة" التي في أصل السياسة وتقوم منها مقام ركنها- أي ولاء المبايعة في لغتنا التراثية الدارجة- هذه "الصداقة" لا تقوم لها قائمة قياساً على كيان الدولة الوطني، ولا قياساً على قواعد العلاقات الدولية و"مجتمع أممها". فـ"الدولة" في الداخل تفترض إجماع "96 في المئة" من المؤمنين - الرعايا عليها، على ما جاء في  مقدمة دستور "الجمهورية الإسلامية" الإيرانية، وعلى المثال الاحصائي الذي ساد نتائج الاقتراع الرئاسي في الديكتاتوريات "القومية" و"التقدمية". والإجماع، في هذه الحال، هو صدى دعوة صادرة من صلب الحركات الدينية الخلاصية والثورية "المتحولة" إلى "الذوبان" في آية الله (العظمى). والدعوة إلى الذوبان في المرشد، أو الإمام أو داعي الدعاة، صاحب لواء "روح الرسالة"، هي صدى "ذوبان" أول وأصيل سبق إليه المرشد الإمام حين "ذاب في الإسلام"، على قول نسبه أصحاب الخميني إلى محمد باقر الصدر قبل مقتله على يد صدام حسين.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها