الخميس 2019/06/13

آخر تحديث: 18:09 (بيروت)

المُهيمِنون

الخميس 2019/06/13
المُهيمِنون
مخيم اللاجئين السوريين في عرسال.. إلى الهدم (غيتي)
increase حجم الخط decrease
بارقة أمل لاحت في الاعتصام الذي نفذه صحافيون وناشطون مع شخصيات سياسية وحزبيين لا سيما من "القوات اللبنانية" في ساحة سمير قصير - وسط بيروت، لرفض خطاب الكراهية والعنصرية ضد النازحين والعمال السوريين في لبنان. بصيص نور بثه هذا الاعتصام، وقبله وبعده مبادرات ونشاطات وكتابات، في ظلمة مطبقة على غُرف السجال العام الضيقة متعفنة الجدران. شمعة تستحق التحية، وتوقظ أُمنية بالبناء على هذا الرفض، بناء خطاب قائم بذاته يفرض مكانه ومساحته في فضاء الرأي العام. لكن معطيات الصورة اللبنانية الكبيرة اليوم، ترجّح أن ينحصر الهدف هذا في إطار التمنّي، ولزمنٍ قد يطول.

فإلى جانب أن القوى السياسية والطائفية المهيمنة على السلطة ومفاصل البلد، والمستأثرة بطبيعة الحال بإنتاج الثقافة المهيمنة، ما زالت هي المستأثرة أيضاً بوضع أجندة مُساجليها ومُناهضيها العالقين في إطار ردّ الفعل على تصريحات "المُهيمن" وما يدفع به من قوانين وإجراءات وأحكام.. فإن "البلوك" المقابل (بتعبير غرامشي)، والمفترض أن يضطلع بصياغة ثقافة مغايرة تمتلك مقومات الصمود والمزاحمة على موقع الهيمنة، يبدو تشكيله تحدياً صعباً، إن لم يكن مستحيلاً.

"التيار الوطني الحر"، ممثلاً في جبران باسيل، المتمتع برتبة "ظِلّ عون على الأرض"، ومعه جوقته الوزارية ونوابه ومحازبيه ومُواليه ومسيحييه، يرمون التصريح تلو الآخر: كراهية تحت شعار حِفظ فرص العمل للبنانيين، واستنكار "ضغط" النازحين السوريين على الاقتصاد وشبكات الخدمات المائية والكهربائية والطرق، وزيادتهم التلوث والنفايات والإنجاب والتسول. عنصرية صريحة في خطاب "الجينات اللبنانية" و"السيادة". تمييز لا يعفي فئة لا يستهان بها من اللبنانيين، عبر مقترحاته لملف التجنيس. وكذب لا يمرّ على طفل بإمكانية عودة النازحين السوريين إلى "المناطق الآمنة" في بلادهم، من دون التوقف لحظة عند السبب الأكبر لنزوحهم (نظام الأسد وحزب الله ومليشياتهما)، ومن دون مخاطبة المسببين أو تحميلهم أي مسؤولية لتحقيق هذا "المطلب الوطني".

ثم تتوالى التصريحات بالردود والمواقف المضادة، والتي غالباً ما ينتهي تأثيرها في اللحظة التالية للحظة التلفظ بها. وباسيل وكوراله ليسوا وحدهم. "حزب الله" معهم، في الخلفية حيناً، بمدَد فعال ولو كان خفيض الصوت، وأحياناً في الصدارة وعلى لسان حسن نصر الله نفسه، بطريقته ولغته، وبحسب أجندته وأولوياته.

تحالف حزب الله – العونيين هو الأكثر مراكمة في السلطة، رغم تعدد الشركاء والمنتفعين. وبالتالي له قوتها. بسلاح الحزب، ثم بنتائج الانتخابات المفصّلة تفصيلاً على مقاسه، وبتحالفات في هذا الملف أو ذاك، لا سيما مع سعد الحريري ومن بعده بعض المكونات السياسية الأصغر. بالحصص في مؤسسات الدولة التشريعية والتنفيذية والتربوية والقضائية والأمنية، بالمرافق العامة، وبالملاحقات القضائية والاستداعاءات الأمنية كلما فتح ناشط أو إعلامي فمه ليعترض. والقوة استقواء أيضاً بالخطاب: استعادة حقوق يُزعم أن اتفاق الطائف أهدرها، شوفينية لبنانية تصل إلى تفوق أخلاقي وبيولوجي، وإعادة تدوير ذاكرة الحرب الأهلية بما يتناسب وأبلسة الفلسطينيين والسوريين في لبنان، وجعل القوة المحضة لازمة بصرية وكلامية للاستهلاك اليومي باسم "العهد القوي" و"الرئيس القوي" و"التيار القوي". والقوة بالشارع، سواء بعناصر "الانضباط" (حزب الله) وزعران الدراجات النارية، أو بالشباب البرتقالي الذي ينفذ حملة على الأرض لمكافحة تشغيل العمال السوريين.

قد يتلمس المراقب تباينات، داخل السلطة، في تبنّي الخطاب المهيمن هذا، مثل نبيه بري، ومضض سعد الحريري وآخرين. لكن ليس إلى درجة النكران وصوغ البديل، فمعارك هؤلاء وتواطؤاتهم، مع باسيل والحزب، في مكان آخر، ولا مصلحة ترتجى في هذا الملف.

أما "المجتمع المدني"، فجلّه أحزاب شريكة في السلطة أو طامحة إليها، ونقابات تمثل تلك الأحزاب وطوائفها، ومثلها العديد من المنظمات والجمعيات، ومعها هيئات طلابية وأهلية وأكاديمية واقتصادية ومصرفية. وفوق الكعكة المسمومة عينها، "كَرَزة" المؤسسات الدينية، ونسبة لا يستهان بها من منتجي الفنون والثقافة السائدة في الإعلام والإعلان والنشر، والأهم: السواد الأعظم (مما تبقى) من الإعلام اللبناني بشتى تلاوينه.

من نافل القول أن بعض المجتمع المدني هذا يناهض باسيل بقناعة صلبة وبكل جوارحه وموارده، على قلّتها. مثقفون وناشطون وحقوقيون وصحافيون ومنابر إعلامية محترمة وإن لم يتخطّ عددها أصابع اليد الواحدة. وكثر من هؤلاء يسلطون الضوء على نواحٍ مغفلة من القضية، كمدى استفادة لبنان من النازحين، في الاقتصاد العقاري والاستهلاكي، وبأثر من اليد العاملة الرخيصة (إلى درجة لا إنسانية)، إضافة إلى الهبات والمنح الدولية لدعم لبنان كبلد مُضيف (وفضائح الفساد هنا معروفة). لكن هؤلاء ما زالوا جماعات صغرى، وغالبيتهم أفراد، يراهم بحر الثقافة المهيمنة المحيط بجُزُرهم، خارجين على طوائفهم وطبقاتهم الاجتماعية ومنابتهم المناطقية، بل وخارجين على أحزاب وتيارات سياسية كانوا قد انتموا إليها في يوم من الأيام. لا مكان لبنانياً لـ"المثقف العضوي" الذي نظّر له غرامشي واستبشر به نواة لهيمنة ثقافية بديلة. وفي الوقت نفسه، لا يصحّ الاستبعاد الكامل لمقولة غرامشي بخطأ رؤية "الانتلجنسيا" لنفسها كـ"طبقة" مستقلة، رغم التعقيدات الطائفية-الطبقية-القبلية للنسيج اللبناني ونظامه السياسي والاقتصادي. لكن، حتى لو كانت الانتلجنسيا هذه، كوكبة مكتفية بذاتها فعلاً، فإن صدى خطابها يبقى محدوداً، وفي أحسن الأحوال يُحتفى به بـ"لايكات" وتعليقات في وسائل التواصل الاجتماعي.

الجماعة مغناطيسها أقوى، وبريق نِصالها (الحقيقية والرمزية) أكثر جاذبية وأقدر على تهدئة المخاوف، فكيف إذا كانت مستحكمة أيضاً في المُلك؟ لا يهم إن كانت أسباب القلق العام على انهيار لبنان، اقتصادياً بالدرجة الأولى، ثم أمنياً واجتماعياً، لا تمتّ بصلة لأولئك "الغرباء" الذين يُتهمون بتهديد السيادة والاستقرار. فشمّاعتهم تريح الأكتاف من ثقل الأسئلة الأصيلة. والخطاب الباسيلي سهل الهضم، يملأ الأمعاء اللبنانية بسرعة، مُرجئاً عراكاتها، وهو أيضاً خفيف على العقول والضمائر. فكيف لثقافة مضادة أن تنافس؟

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها