الخميس 2019/05/09

آخر تحديث: 12:06 (بيروت)

فَرْنَسة وتعريب... بوكو حرام

الخميس 2019/05/09
فَرْنَسة وتعريب... بوكو حرام
فرنسة
increase حجم الخط decrease
تثير مسألة التعليم بالعربية، وهي غير تعليم العربية بديهة، ويقصد بها غالباً تدريس مواد علمية "دقيقة"- مناقشة وخلافاً لا يخلوان من الحدة. وهي مسألة متنقلة تحط رحالها، تبعاً لظروف متفرقة، في هذا البلد العربي (اللغة) أو ذاك. وسبق أن شغلت أوساطاً وهيئات لبنانية، على سبيل المثل، طوال ثلاثة عقود هي الثامن والتاسع والعاشر من القرن الماضي. وانتهت إلى خاتمة بائسة في أواخر العقد العاشر، قضت بالتخلي عن تدريس العلوم بالعربية في مدارس جمعية المقاصد الإسلامية الخيرية الاسلامية والعودة إلى تدريسها بلغة أجنبية هي الانكليزية. وتحط المسألة، هذه المرة، في المغرب.


وذريعة المناقشة والخلاف تمسك خطة إصلاح التربية والتعليم في المملكة المغربية، أو قانونها الإطاري، بتدريس العلوم المجردة أو الدقيقة من فيزياء وكيمياء ومعلوماتية والكترونيات، بالفرنسية أو بالانكليزية، وليس بالعربية، على خلاف طلب حزب العدالة والتنمية، الإسلامي "المعتدل" ورغبته. وهو الحزب الأكثري في الائتلاف الحكومي الحاكم منذ نحو عقد من السنين. والحزب ليس مجمعاً على رأي في المسألة. فعضو أمانته العامة، المصطفى الرميد، وزير الدولة "المكلف حقوق الانسان"، يدعو مجلس الحزب الوطني ("لجنته المركزية") إلى الانعقاد والمداولة والإجابة عن سؤال يصيغه على النحو التالي: "هل نريد الاستمرار في الحكومة ونفوض الأمانة العامة تدبير الموضوع أم أن الامر يتعلق بمبادئ كبرى وخطوط حمر وبالتالي علينا أن نغادر؟"

سياسة وشرع
ومعنى الصيغة "السياسية"، وهي الصفة التي يختارها الوزير الحربي، يتناول مكانة المسألة من سياسات الحزب الإسلامي. فهو مخيَّر، يخيره القصر أي محمد السادس، بين الإصرار على التدريس بالعربية وترك الائتلاف الحكومي، وبين التخلي عنه والبقاء في رئاسة الائتلاف. فإذا اختار الاصرار كان معناه أن التدريس العلمي بالعربية، وليس العربية نفسها، بند جوهري من بنود تعريف الحزب نفسه ودوره وبرنامجه. وإذا مال إلى التخلي وأقره قدَّم البنود الأخرى من برنامجه على مسألة لغة تدريس العلوم، وأخَّر هذه إلى مرتبةٍ عملية وجزئية.


ولا يخفى أن الأحزاب الاسلامية، وبعض الأحزاب القومية (العربية)، تنيط باللغة العربية تعريف هويتها الدينية والقومية. وتمتحن الشراكة في السلطة والحكم هذا التعريف أو دعواه. وقد تقسّم الشراكة الحزب أو الجماعة. وهو ما فعلته في "العدالة والتنمية" المغربي. فالرميد يدعو إلى إقرار القانون الإطاري العتيد، وإلى تحمِّل قيادة الحزب النظامية التبعة عن هذا الإقرار، وليس وزراء الحزب وحدهم. وذلك لأن الوزراء يرون رأياً يخالف رأي القاعدة الحزبية، أو رأي شطر منها لا يستهان به على الأرجح. وهذا الشطر لم يبلغ بعد نسبة ثلث أعضاء المجلس الوطني. وهي النسبة التي توجب انعقاد الهيئة ومداولتها في المسألة وبتها. وما لم يبلغ دعاة الانعقاد هذه النسبة، جاز للأمانة العامة التصرف على الوجه "السياسي" الذي ترتأي.

و"السياسي"، في هذا المعرض، هو خلاف العقيدة أو اعتقاد الأركان. والمفاضلة يبن "المبادئ الكبرى" و"الخطوط الحمر" وبين المسائل الفرعية هي من باب السياسة. وافتراض المفاضلة والترتيب، على الضد من التمسك، كتلة واحدة، بمواد البرنامج والتسوية بينها، قرينة على الميل إلى تحكيم المصالح الكثيرة وتأويلها على نحو غير أصولي.

ويتناول أحد أعضاء مجلس العدالة والتنمية الوطني، محمد بولوز، مسألة اللغة العربية وتدريس العلوم بها من وجه آخر، غير وجه وزير حقوق الانسان، قد يصح وصفه بـ"الأصولي". وآية أصولية محمد بولوز، أو تناوله، هي حمله المسألة الجزئية- وهذا رأي يترتب على تمييز أو تصنيف ينكره الأصوليون جملة وتفصيلاً- على الأركان والأصول. فيكيل لزملائه في الحزب الاسلامي، وفي مجلسه الوطني، الذين لا يرون رأيه، النعوت التي تصدق على المرتدين وفيهم.

فمن يرتضون تدريس العلوم الدقيقة والمجردة بالفرنسية- لغة المغرب الأجنبية قبل الانكليزية وغيرها- لا حجة لهم ولا ذريعة إلا افتقارهم إلى الصفات الاخلاقية والمعنوية التي يتحلى بها المسلم الصادق. والرضا بغير العربية، في هذه الحال، "خذلان (...) للغتنا في مجال (تدريس العلوم)". ومن يحمل ربط الخذلان بمجال التدريس على بعض التحفظ والتخصيص لن يلبث أن يخيب ظنه. فالرجل لا يشك في أن المتخاذلين، على طعنه، إنما (ينحازون) للغة المستعمر. وهو يعد انحيازهم "مصيبة عظيمة" تمهد لمصيبة أعظم. ويشك في من "يُصنفون قياديين من إخواننا (بالدعوة) إلى بدء فَرْنسة كاملة من الإعدادي لتكون فَرْنسة كاملة للعلوم والتقنيات في التأهيلي...".

الداء
والفَرْنسَة، وهي صنو "الغربنة" أو "التغريب" في مصطلح اسلاميين من صنف آخر، لا تقتصر على مذهب تربوي تعليمي، أو منهجي تقني وظرفي. فيقبل المناقشة والمقارنة ويحتكم إلى حساب العائد من الاستثمار، ويتوقع الأرباح والخسائر، ويفحص عن الذرائع ويتحرى وجوه سدها. وهذا عمل، أو هذه عمليات ثقافية وفكرية يرى فيه هذا الصنف من الأصولية تهويناً من شأن كارثة لا تدخل في ميزان حساب لأنها تقصم الميزان أصلاً، وتقلب الموازين والمعايير وتصيبها بمرض الاشتباه الخبيث والمميت.


ونظير داء الفَرْنسة، ليس التعريب نهجاً وطريقاً. ولا يترتب على مقدمات وتوظيفات، ولا يُسأل عن نتائج وتداعيات على مجالات التعليم، والتأهيل المهني واستكمال الدراسة والعمالة، وتوطين الصناعات، والمداخيل، وغيرها. وليس إحصاء الدوائر السريع هذا تسليماً بمنافع تدريس العلوم المجردة بالفرنسية ولا تنديداً مضمراً ومبطناً بمضمار التعريب. ومحمد بولوز ينأى بنفسه عن احتساب المنافع والمضار وإطار هذا الاحتساب. ويدعو إلى "مواقف رجولية وتاريخية تدفع لتعريب الجامعة". فتطفو على صفحة مسألة التعليم وعلاقته بمؤهلات العمل وبالتقنية والانتاج المحلي والعالمي، نزعات ومثالات آبدة وصارمة. وتعلي هذه النزعات الرجولة الأصلية والمنيعة على الأنوثة الرخوة والمحتاجة إلى الإحصان بوجه غواية الغريب الأجنبي، على قول تغريبة بني هلال فيمن لسن بنات عمومة من الزوجات. فـ"النساء"، على خلاف "الرجال الرجال"، ضعيفات تجاه غواية الأجنبي ولغته وزينته وغزله و"إباحته" ودعوته إلى مساواة الإناث بالذكور... ومن جهتهن، جهة البنات والخؤولة في المثال القرابي العربي، يصيب الضعف رابطة بني العمومة المقدَّمة والأصلية والمنيعة على التهجين. ومن تستدرجه غواية الأجنبي- والفرنسي أجنبي مضاعف، وعلى وجهين طبيعي قومي ومستولٍ فاتح-، هو أنثى، أي غير رجولي، على قول محمد بولوز. و"التاريخية"، في المواقف التاريخية، وفي معرض كلام عضو مجلس العدالة والتنمية الوطني، هي صفة احتساب التاريخ، وحوادثه وجديده ودواعيه و"تحدياته"، فلا شيء أو مثل شيء نكرة ولا يؤبه له قياساً على الأصالة والأصول الثابتة، لا يصح ولا يجوز حمل الأمور الظرفية، مثل التواصل العلمي والتقني والتأهيل المهني ويسره وعسره، على ضرورة موقتة أو على ذريعة "تنتظر" التعويض. فالتاريخ الأصولي، والعبارة تتدافع في ميزاننا، لا يقر للوقائع الاجتماعية والثقافية والسياسية المحدثة بالمشروعية... التاريخية. فهي ليست مصدراً مشروعاً لعمل أو رأي، أو لأحكام عمل ونظر، ولا ينبغي لها أن تكون مثل هذا المصدر. ويوجب التاريخ هذا نفسه مراتب بين اللغات. فاللغة العربية "أرقى" من الفرنسية. ولا يقول بولوز إن العربية هي لغة الجنة ولغة اللوح المحفوظ والخلق بـ"كن"، ولكنه يضمر هذا المعنى صراحة، إذا جاز القول.

وطريقة الأصوليين المعتدلين في تناول مسائل الخلاف (هل من مسائل لا خلاف عليها في مجتمعات العرب المسلمين اليوم؟) تدعو إلى تعقب الانقلاب من "المجزؤات" إلى الكليات، ومن "المصالح الوهمية" إلى "المبادئ". وعلى هذا فالتهمة عامة. وهي تصيب الناس كلهم، ولا تعف عن أحد أو عن شيء. وصرحت (التهمة) عن حمل من تتهمهم، أي نحن كلنا، على الجاهلية القطبية (نسبة إلى سيد قطب) أو على الردة الناجية (نسبة إلى القاعدي أبوبكر ناجي صاحب إدارة التوحش)، أم لم تصرح، فالجاهلية أو الردة هما الحد الذي يسلطه الأصوليون على مخالفيهم. وسلاحهم ثقيل وقاطع. فكيف وأنّى لرأي أن يُسمع وأن يُرد، بعد أن يستبقى منه ما لا يغذي تناولاً أو معالجة، إذا كان الخلاف يتطاول إلى خذلان الدين أو الانتصار له، وإلى الانحياز إلى لغة الخلق أو إلى لغة المستعمر، ويخيَّر المخالف بين الرجولية الشجاعة وبين الأنثوية المائعة، وبين المصلحة الجزئية والظرفية وبين الأصول الكلية والأركان.

"التشطير"
والإحتكام إلى هذه الأبواب، وهي أضداد ينفي الضد منها ضده و"يعدمه"، لا يشق الآراء والمذاهب وحدها، بل يشق المجتمعات وأهاليها شطرين أو فسطاطين، على قول أسامة بن لادن وقول دعاة البراءة السياسية في الشعائر والمشاعر (وهو رأي هيئة الحجاج الايرانيين). ويشق الدولة الواحدة طبقتين، طبقة الشرفاء وطبقة الوضعاء. ولا ينبغي لأهل الطبقتين أو المرتبتين الاستواء على مستوى سياسي وحقوقي (قانوني) واحد. فالشطر الأهلي المولود، تربية وعملاً ومصلحة خاصة وعامة وميلاً وثقافة، من علاقات الدول والمجتمعات وتشابكها وسيطرة بعضها على بعض واستقلالها من بعد، تقضي الأصوليات المعتدلة بتقليص حقوقه وتأخير مرتبته.  والحرب، الأهلية الاستئصالية والعادلة، هي مثال العلاقة بين الطبقتين. وإذا كبحت سلطات أصولية النازع إلى هذا الحد فلأن انقيادها إليه يدمرها ويقضي على أصحاب السلطة فيها. ولأن سياستها هي "عين دينها"، احتذت على مثال الحرب على الكفار والمرتدين: إما "الإيمان" والتخلي عن مقومات الجماعة المنفصلة، وإما الولاء والالتحاق بالغالب من طريق ضامني الموالي (أو المُوالين). وهذه الحال، على الوجهين، تضمر كمون الحرب الأهلية وتربصها بالسلم الأهلي. وغالباً ما تؤاتي الفرصة المتربصين.


وما يعلنه بعض أنصار حزب العدالة والتنمية المغربي اليوم، ولغة هذا الإعلان وأفكاره (الفرنسية، التعريب، الشجاعة، الرجولية، المبادئ...)، نهج سبق تجربته في بلد شقيق، هو الجزائر. وبعض الجزائريين، من أصحاب الرتب العالية، تراودهم، في خضم الحركة المدنية والديموقراطية الجزائرية، استعادة أصداء هذه اللغة. ومؤداها العملي والأخير هو أن ستة عقود تقريباً من التسلط العسكري والبوليسي والأمري ليست مسؤولة عن تصدع الدولة والمجتمع ولا عن استنقاعهما. ويُسأل عن هذا المتحفظون عن قرارات قاطعة ومتسرعة في شؤون يفترض نضوج النظر فيها عقوداً إن لم يكن قروناً من الزمن. فحركة إرهابية مثل بوكوحرام نشأت عن "قرارٍ" مثل هذا: المدارس الأجنبية، تعليم الأجانب، الغرب... حرام.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها