الخميس 2019/05/30

آخر تحديث: 17:01 (بيروت)

شعبوية في "الأميركية"

الخميس 2019/05/30
شعبوية في "الأميركية"
increase حجم الخط decrease
ثمة ديماغوجية تتفاقم في أوساط الجامعة الأميركية في بيروت، طلاباً وأساتذة. هذا ما يلمسه كل مَن تابع أخبار الجامعة في الإعلام والسوشال ميديا، خلال الأعوام القليلة الماضية، لا سيما إن تمتّع المراقب بشيء من العقلانية السياسية والثقافية. باختصار: الخطاب الممانع واليساروي الشعبوي يلقي بظلال واسعة على النقاش الأكاديمي والطلابي الداخلي، والذي بات أكثر حضوراً في الحيز اللبناني العام. والحضور هذا ليس فقط بأثر من وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام الجديد فحسب، لكن أيضاً "بفضل" نموذج جديد نسبياً للأداء الإعلامي اللبناني. نموذج يتكئ، وبدفع من أجندة ممانعاتية نضالية مُلمَّعة بلمسة حداثوية، على نهج فضائحي في "كشف المستور"، وضخّ أدرينالين التجرؤ على المؤسسات "الأجنبية" و"البرجوازية" الكبرى من قبيل الجامعة الأميركية في بيروت، التي لطالما فرضت هيبتها واحترامها نظراً لتاريخها وصورتها الحصينة في المخيال الجمعي، ليس في لبنان وحده، بل في المنطقة بأسرها. 


ربما لا يكون في الظاهرة ما يستوجب القلق على قلعة تربوية وأكاديمية وثقافية مكينة من وزن "الأميركية" التي تجاوز عمرها الـ150 عاماً، وصمدت خلال سنوات الحرب اللبنانية، وقبلها وبعدها على محك أزمات وتوترات شتى. لكن في المشهد حتماً ما يغري بالفهم والتفكيك. ذلك أن الجامعة، واحة لشكل مغاير من العيش في لبنان، بدءاً من حَرَمها وخُضرتها وتقديماتها، وصولاً إلى مستواها التعليمي والاجتماعي وأثرها في محيطها والذي جعل أجواء منطقة رأس بيروت هذه المتنوعة التي نعرفها والضاجة بالحياة. وليس انتهاء بالتزامها منظومة قيم غربية تحترم الاختلاف والحريات والأفكار والحوار. لكنها أيضاً كبسولة لبنانية وعربية مصغّرة يخضع عناصرها من أساتذة أو طلاب، وحتى الإداريين والموظفين والتقنيين، لاختبار الاحتكاك بهذه المنظومة التي لم يبق منها خارج أسوار الجامعة إلا النزر اليسير.

إذا ما نحينا جانباً الانتخابات الطلابية، والتي يظهّر معظمها، بطبيعة الحال، خريطة التحالفات السياسية والطائفية في البلد، ونحّينا معها مختلف النوادي المحسوبة على أحزاب وتيارات سياسية، سنجد أن اللغة المتمحورة حول فهم مبسّط ومراهق للقضية الفلسطينية، ومعها مناهضة الاستابلشمنت، هي الأعلى صوتاً والأكثر هيمنة على مسارات النقاش داخل الجامعة. وذلك أياً كان الموضوع: مقارعة مجموعة من الأساتذة لإدارة الجامعة تحت عناوين معايير التوظيف وسلّم الرواتب وعقود تثبيت الأساتذة في مَلاك الجامعة... التصدي، بصراخ المنع، لاستضافة أكاديمي أميركي قيل أنه "تعاون" مع الجامعة العبرية رغم كتاباته العديدة عن جرائم الحرب الإسرائيلية والحقوق الفلسطينية المكلومة، في حين لم يطالب منتقدو أدونيس مثلاً بمنع محاضرته، بل دخلوها حاملين لافتات كتبت فيها أقواله ومواقفه التي تخدم بشار الأسد وتقوّض الثورة السورية... الاحتجاج على إلغاء إدارة الجامعة لاستضافة أكاديمي إيراني درءاً لمغبة خرق العقوبات الأميركية، وكانت الجامعة قد تكبّدت غرامة بقيمة 700 ألف دولار إثر مشاركة قناة "المنار" وإذاعة "النور" التابعتين لـ"حزب الله" في إحدى ورشات العمل ضمن الجامعة، كون المؤسستان مُدرجتين في اللائحة الأميركية للمنظمات الإرهابية. علماً أن الجامعة تطبّق القوانين اللبنانية، سواء في ما يخص مقاطعة اسرائيل، وكذلك في ما يخص العقوبات الأميركية التي يلتزم بها أيضاً مصرف لبنان والقطاع المصرفي اللبناني برمته.

منذ حرب فيتنام، مروراً بمرحلة الانتفاضة الفلسطينية الأولى، يتنامى في الجامعات الأميركية، ضمن الولايات المتحدة وحول العالم، جو أكاديمي يساري الهوى، مناصر لفلسطين، ونقدي لإسرائيل ومتربّص بالأداء "الاستعماري" الأميركي، وهو جو حميد وإن كان متأثراً أكثر مما ينبغي بالمنحى الإدوارد سعيدي في فهم عالَم ما بعد الاستعمار. والحق أن تلك المجموعات الأكاديمية الأميركية تُعدّ الصوت الآخر داخل الولايات المتحدة، التي تواجه السائد، وتؤدي دور الرقيب والمناضل للحفاظ على ارتفاع سقف حريات وحقوق مدنية وسياسية. تسعى لحِفظ طريق العودة إلى زيارة الرواية الأميركية الوطنية المكرّسة، حتى بالمعنى الجندري والعِرقي والطبقي من ضمن التركيبة الأميركية، كما في السياسة الخارجية. لكن الكثير من هؤلاء الأكاديميين المهتمين بالشرق الأوسط، والذين يفدون الجامعة الأميركية في بيروت زائرين أو مقيمين، يصبحون شيئاً آخر، سواء وعوا ذلك أم لا. يرفدون – ولو عن حُسن نيّة – الخطاب المحلي، الذي يسيء استخدام قضية الصراع مع إسرائيل، لخفض سقف النقد لـ"حزب الله" وسلاحه وأثره السياسي والثقافي في الاجتماع اللبناني، ولحرمان الثورة السورية من حقّها في الدرجة ذاتها من المناصرة، وهو ما يصب في مصلحة نظام البعث الأسدي. يرفدون خطاباً يتعاطف مع إيران ونظامها ومليشياتها، بأثر من بوصلة أخلاقية معتلّة تؤشر دوماً إلى مَن "يحارب" أميركا وإسرائيل. والرفد هذا، من أكاديميين أميركيين وأجانب، يسبغ مصداقية ومشروعية ما على ديماغوجيا أقرانهم اللبنانيين والعرب في الجامعة. لا سيما أن أكاديميي المقلب الآخر، أي اللاممانعين، وهم ربما كتلة مساوية إن لم تكن أكبر، غالباً ما لا يكونون مسيّسين أو لا يمتلكون الرغبة في الانخراط بفاعلية في النقاش السياسي العام. وبالطبع، فإن اللغو الممانعاتي ذا الصوت العالي، يدعّم خطاب السلطة اللبنانية التي باتت شبه كاملة في أيدي "حزب الله" وحلفائه.

وواقع الحال أن نضالاً من النوع "المُقاوِم" هذا، ليس مُكلفاً في لبنان، ولا خطورة فيه. بل لعله مُستوعَب ومُحتضَن، بالضبط لأنه ينسجم مع السلطة الرسمية، كما مع أدوات التسلط غير الرسمية. في حين أن الاتجاه المعاكس، المُناهض لسلاح "حزب الله" ومشروعه وإيديولوجيته وتدخله في الحرب السورية، والأكثر ميلاً إلى التساوق مع نظرة واقعية وعملية لقضية الفلسطينيين في وطنهم وشتاتهم (البشر -لا الحجر- ولا الأرض كفكرة مجرّدة)، الاتجاه الأحرص على تفادي فخ الدعاية اللاساميّة المجانية والشعبوية من دون تبرئة إسرائيل من عسفها وجرائمها ودمويتها، وهو الاتجاه الأوضح في تجريم بشار الأسد وحلفائه وفي تأييد الثورة السورية كمبدأ محق قبل التوغل في نقدها.. هذا الموقف غالباً ما يُرجَم أصحابه بالتخوين كأضعف الإيمان، ومعلوم أن مقوّمات حمايته واحتضانه ونموه، تتضاءل يوماً بعد يوم. فشتيمة "العمالة لإسرائيل" ليس هناك ما يوازنها من قبيل العمالة للنظام السوري أو الإيراني.

لحُسن الحظ، يبدو أن الجو هذا في الجامعة الأميركية في بيروت، ما زال محمولاً على موجات صوتية فقط، قد تتمظهر في اعتصام هنا أو تشويش على ندوة هناك أو كلمة تلقى في احتفال، ولم يجد ترجمة أكاديمية فعلية في المجال البحثي والعلمي، الذي ما زال يحافظ على جودته واحترافيته، بل وتلمع فيه بين الحين والآخر أداءات تتحدى السائد وتُسائله، كما يفترض بالنخب أن تفعل.

لكن ثمة خطراً من نوع آخر، لعله ليس داهماً أو مستفحلاً، لكن بذرته وجدت لها تربة مخصّبة بابتذال الأداء النقابي العمّالي لدى بعض الجسم التعليمي، وهذا ما يستدعي تنبهاً. إنه الخطر على مؤسسة أميركية غير ربحية، تشكل الهبات والتبرعات شرياناً أساسياً لبحوثها واستمراريتها، لبرستيجها المحكوم بالثقة في شفافيتها ومعاييرها الإدارية والمؤسساتية كما الأكاديمية. ومن دون الخوض في تفاصيل تقنية، يمكن الاستدلال ببعض العناوين المتداولة راهناً:

- عقود التثبيت في ملاك الجامعة: ينتقد بعض الأساتذة شروطاً فيها بشكل يوحي بأن الإدارة ضد الأساتذة، متآمرة على مصالحهم، أو تنوي الاحتيال عليهم، على طريقة حسابات الدكانجي. في حين أن العودة إلى إجراءات التثبيت في الملاك، ومأسستها، بعد انقطاع دام منذ سنوات الحرب الأهلية اللبنانية، جاءت بمبادرة من الإدارة التي يهمها إرساء مقومات الأمان الوظيفي فيها لاستقطاب أكاديميين مرموقين. والجامعة الأميركية مؤسسة غير ربحية مسجّلة في أميركا، تنظمها قوانين وإجراءات معروفة ودولية الطابع، وليست مقهى النراجيل على الزاوية الذي يوظّف صاحبه النادلين بالحد الأدنى من المكافآت والضمانات.

- المطالبة بزيادة الرواتب: أمر طبيعي في كل المؤسسات، ونقاش داخلي لا بأس في جرّه إلى ضوء الخارج، إنما كدينامية، لا كـ"فضيحة" هدفها على الأرجح إكساب مروّجيها شعبية قيادية في موضوع الرواتب دائم الجاذبية. بل ويذهب الخطاب المطلبي إلى القول بأن بعض الرواتب لا يكفي عائلات الأساتذة، في حين أن أدنى رواتب الأساتذة في "الأميركية" يُعدّ من الأعلى في البلد.

- الادعاءات بتوظيفات طبقاً لمحسوبيات: ثبت زيفها بالكامل. لكن، وإن ترفّعت عميدة كلية الآداب والعلوم، ناديا الشيخ، برُقيّ واحترافية، عن هذه الإساءة من زملاء لها، فإن الإساءة التي تطاول الجامعة تكمن في استجرار خيالات الممارسات المستشرية خارج الجامعة إلى داخلها، بما يجعلها تبدو غير محصنة وأنها امتداد للبنان المعروف بعوار إدارته والعالَم بأسره الآن يطالبه بإصلاحات ما زالت متعثرة.

والحقيقة، أن النهج النقابي، وإن كان جيداً من حيث المبدأ، إذ يبقي عيناً رقابية على أداء الإدارة، إلا أنه حين يرتكب مثل هذه الأخطاء، بصرف النظر عن (لا)براءة دوافعه، قد يجعل العملية المعتادة لجمع التبرعات للجامعة، التي تفخر باعتماداتها الأكاديمية وبذلت طواقمها الجهد والوقت والموارد لتحصيلها، تحدياً أكبر ستنعكس آثاره على الجميع.

مجدداً، لا خوف على الجامعة الأميركية في بيروت، لكنه النقاش وقد فُتح، والحب لما تبقى من سيرة المدينة، هذا الشطر من المدينة، والصدور التي لطالما اختلجت بتلك العبارة المحفورة في لوحة تعلو المدخل الرئيسي للجامعة: "من أجل أن يحظوا بالحياة، ويحظوا بها وافرة". هذه "أميركية بيروت" لكل من تخرّج فيها، ولكلّ من حلم بذلك أيضاً.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها