الثلاثاء 2019/05/28

آخر تحديث: 12:36 (بيروت)

علاء الدين كفانتازيا غربية

الثلاثاء 2019/05/28
increase حجم الخط decrease
سبعة وعشرون عاماً انتظرَتها "ديزني" لإعادة إصدار فيلم الرسوم المتحركة الكلاسيكي "علاء الدين" الذي يعود إلى العام 1992. فترة طويلة، تخللتها شكوك حول قدرة الشركة على إطلاق نسخة جديدة من فيلمها الأيقوني، حيث يلعب ويل سميث دور الجنّي الأزرق. بدافع من احترام للتراث الثقافي العربي، اتهم المتابعون الشركة بتبييض الأدوار، جرياً على عادتها الهوليوودية في تسكين ممثلين من ذوي البشرة البيضاء في أدوار لشخصيات غير بيضاء. في أكثر من ألفي اختبار أداء، بحث المنتجون بعد ذلك عن ممثل رئيسي للفيلم "جدير بالتصديق"، عليه ألا يتمتع بالقدرة على الرقص والغناء فحسب، بل وأيضاً يحمل خلفية شرق أوسطية. بداية التصوير كان لا بد من تأجيلها، حتى توصّلوا أخيراً إلى الممثل الكندي، المصري الأصل، مينا مسعود.


ومع ذلك، إذا ألقيت نظرة على قصة الحكاية الخيالية، فربما كان على المنتجين توفير جهودهم البحثية للعثور على شخص يحمل خلفية شرق أوسطية. لأن علاقة الشرق الأوسط بحكاية علاء الدين ومصباحه السحري، لا تزيد عن قدر العلاقة التي تربط بين الأسد الملك (سيمبا) وبين الحياة في السافانا الأفريقية. فلا تبدأ قصة الصبي الفقير ومصباحه في دار السلطان العثماني، ولا في حلقة راوٍ مصري، أو حتى في سوق دمشقي، بل تبدأ في باريس العام 1704.

تحت اسم "ألف ليلة وليلة: حكايات عربية"، قام جامع التحف الفرنسي والمستشرق أنطوان غالان (1646 - 1715) باختراع واحد من أكثر الكتب مبيعاً بنشره المجلدات الثلاثة الأولى من ترجمته الفرنسية لحكايات ألف ليلة وليلة العربية. بالنسبة إلى علاء الدين، كان هناك القليل عنه ليُقرأ، مقارنة بعدد الليالي وحكاياتها الكثيرة. لكن المخطوط الأصلي المكتوب بخط اليد، الذي اكتشفه غالان قبل ثلاث سنوات في إحدى رحلاته عبر الشرق الأوسط، توقف فجأة بعد 282 ليلة.

من أجل إرضاء الجوع الأوروبي للحصول على حكايات شرقية جديدة، استدعى غالان نفسه إلى القلم دون تأخير، مضيفاً مواداً جديدة وحكايات خرافية سمعها في مكان آخر في خلفية الحكايات. جاءته المساعدة الكبرى من شاب سوري ماروني اسمه حنا دياب. انتقل دياب من حلب إلى باريس، مع رحالة ومستشرق فرنسي آخر هو باول لوكاس، وعمل معه كمساعد ومترجم. روي دياب حكاياته على مسامع غالان، وسرعان ما امتدت المادة المترجمة حتى صارت الثلاثة مجلدات اثنى عشر مجلداً. وهكذا، أضيف الكثير من القصص الخيالية الشعبية الأكثر شهرة اليوم من الليالي العربية: السندباد البحري، علي بابا والأربعين حرامي، علاء الدين والمصباح السحري. وُلد علاء الدين في باريس إذاً، فلا وجود لأي مصدر عربي لحكايته الواردة في "ليالي" غالان.

يختلف المؤرخون حول حصة غالان وحصة دياب في القصة التي وردت إلينا. هل ما يقف وراء الوصف الباروكي لقصر السلطان في قصة علاء الدين، هي البصمة الثقافية لغالان أم حماسة دياب لقصر فرساي؟ هل هناك في قصة علاء الدين سمات سيرة ذاتية جزئية لحياة غالان الشخصية؟ شيء واحد مؤكد: ما كتبه الاثنان كان موجهاً إلى جمهور أوروبي. اختفت المراجع الدينية من القصص الأصلية وكذلك النظم العربي الكلاسيكي. شُذّبت المقاطع الإيروتيكية لليالي وفقاً لمعايير أوروبية محتشمة، وتمت التضحية بقصائد متفرقة من أجل تحسين تدفق القراءة. عندما نشر أنطوان غالان، في عام 1712، أول طبعة كاملة من مجموعة القصص الخيالية المشهورة عالمياً باسم "Les Mille et Une Nuits"، كان الخيال الأوروبي عن الشرق حاضراً فيها بقدر ما وُضع من قصص عربي.


ما تبقّى غير مشكوك في أصله العربي هو القصة: قصة شهرزاد، جارية شهريار الملك، التي تهرب من رغبات الملك القاتل بإخباره حكاية خرافية كل ليلة، والتي تصبح الأكثر إثارة حين يحين فجر صباح اليوم التالي. حين نتحدث عن أصل عربي، فذلك يؤدي إلى ضلال محض. حتى القصص التي جلبها غالان معه من أسفاره في العام 1701 كانت نتاج تبادل أدبي هندي وفارسي وعربي طويل. فلقرون عديدة، ظلت الحكايات تروي شفهياً، وتتناقلها الأجيال بإضافات شتى. ولقرون، أعيد كتابة "الليالي"، وأعيد تفسيرها وتوسيعها مراراً وتكراراً. وحتى يومنا هذا. مَن يدخل اليوم مكتبة في بيروت أو القاهرة ليسأل عن "الليالي"، على الأرجح سيحصل على ترجمة عربية لـ"الأصل" الفرنسي. أما بالنسبة لأولئك الغربيين الذين يبحثون عن علاء الدين في الكتاب كقاطع طريق عربي سيختبرون المفاجأة التالية: لا شيء من هذا القبيل. بدلاً من ذلك، يُصوَّر علاء الدين في حكايات ألف ليلة وليلة على أنه "ابن خياط فقير عاش في مدينة كبيرة في الصين". في البقية، تظلّ جذور علاء الدين الصينية ذات أهمية ضئيلة، ومن المحتمل أن يكون لتلك الخلفية المبهمة وظيفة أساسية تتمثل فقط في التأكيد على الأصل الإكزوتيكي لعلاء الدين.

ومع ذلك، لم يذهب هذا السطر سدى: تُظهر طبعات مصوّرة من الليالي العربية في القرنين الثامن عشر والتاسع، علاء الدين برأس حليقة وجديلة شعر طويلة ومضفرة، على شاكلة أسرة تشينغ الصينية الحاكمة آنذاك. في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، أضحت القصة موضوعاً شعبياً في التمثيل الإيحائي (البانتومايم)، المزدهر شعبياً في إنكلترا آنذاك، حيث قُدّمت القصص الخيالية في مزيج مسرحي جمع بين الكوميديا الهزلية والموسيقية. هنا، أيضاً، أظهروا علاء الدين على أنه صيني، أو ذهبوا بالأحداث كلها إلى الصين. لذلك، تبدو اليوم حقيقة رفض عشاق علاء الدين إضطلاع ممثل مثل جاكي تشان للعب الدور، غير مقنعة ومربكة في أفضل الأحوال. ما السبب؟ لأن صورة علاء الدين الخاصة بهم تأتي من اقتباس فني آخر ناجح للغاية: فيلم الرسوم المتحركة "علاء الدين" (1992) من إنتاج ستوديوهات والت ديزني. وبالفعل، أغنية "آرابيان نايتس" توضّح بجلاء المكان الذي تدور فيه أحداث الفيلم. ومع ذلك، يبدو هنا السعي لتأصيل الحكاية عربياً عبئاً وعبثاً لا معنى له. بدلاً من ذلك، يسير الفيلم نفسه على خطى تقاليد طويلة لأفلام غربية عن علاء الدين.


وبالحديث عن نسخة العام 1992، لا بد أولاً من العودة إلى أربعينيات القرن العشرين للعثور على فيلم المغامرات الذي ترك انطباعاً هائلاً على منتجي ديزني: "لص بغداد" (1940). نجحت هذه الفانتازيا الشرقية البريطانية نجاحاً عالمياً كبيراً، ومنها، أخذت "ديزني" ليس فقط مكان الأحداث الهندي العربي (إلى المدينة الخيالية العربية المسماة "عقربة")، ولكن أيضاً بعض الشخصيات الرئيسية: السلطان المتغطرس سيصبح صبيانياً ساذجاً، وسيختفي الساحر الأصلي ويسلِّم دوره (بالإضافة لدور وزير السلطان) إلى شخصية جديدة اسمها "جعفر"، في حين إن الأميرة أصبحت "ياسمين"، وأصبح جنّي المصباح يطالب بحريته، كما لا يوجد هناك خاتم سحري، لكن البساط السحري يملأ مكان الخاتم في القصة.

حتى تلك الأصالة العربية المزعومة تختفي تقريباً حين النظر إلى النماذج الثقافية التي صممت بها ديزني الشخصية الرئيسية لعملها الكارتوني الكلاسيكي. ففي كتابه "فن الرسوم المتحركة لديزني: من ميكي ماوس إلى هرقل"، يبيّن بوب توماس كيف استلهم رسامو ديزني ملابس شخصية علاء الدين من محبوبي جماهير المراهقين الأميركيين في ذلك الوقت. على سبيل المثال، نُسخ سروال علاء الدين الفضفاض من مغني الراب والهيب هوب إم سي هامر. بينما ملبسه الآخر لم يتوجه إلى أطفال الشوارع العرب، بل بشكل خاص لنسخ صورة أخرى لأيقونة أميركية بيضاء هي توم كروز. 


والرسالة، إذا كان ثمة رسالة، لجميع مَن يبحث عن نواة أصيلة وحقيقية للقصة: علاء الدين "ديزني" ليس فقط نموذجاً للكليشيهات الغربية، لكن أيضاً للكليشيهات الهوليوودية الحيّة والباقية في تشكيل وعي زائف عبر زعم ردّ الحقوق لأصحابها التاريخيين.

اليوم، يمثل فيلم ديزني نفسه مصدر إلهام لرواة القصص وصانعي الأفلام في أنحاء العالم، ويلقي بتأثيره على اقتباسات يابانية في أفلام الأنيمي الشعبية ومسلسلات هندية لربات البيوت. النسخة الأخيرة من إخراج البريطاني غاي ريتشي تطوّر المادة مرة أخرى، من دون القلق بشأن الحدود الثقافية: فإذا كانت النسخة الكرتونية لقصر السلطان باروكية في الماضي وتشبه كثيراً تاج محل الهندي، فإن التكنولوجيا ستغيّر هذا الوضع في النسخة الجديدة ليصبح القصر أشبه بآيا صوفيا التركي. علاء الدين، الذي أصبح أميراً في العام 1712 ، حاول لفت انتباه الأميرة بجيش يتألف من 80 عبداً، لكن ظهوره السينمائي الحالي يشبه كرنفالاً برازيلياً. ممثلو الأدوار الرئيسية كذلك سيجرى توضيبهم واختيارهم بحيث يمثلون مزيجاً إكزوتيكياً لا يثير أي متاعب. بعد 300 عام من إعادة كتابتها وتفسيرها والبحث عن أصلها، أصبحت الحكاية الشرقية الخيالية فانتازيا أميركية موسيقية على الطريقة البوليوودية.

فيلم "علاء الدين" لن يقدم أي شيء أصيل عن العالم العربي أو الشرق أو حتى عن الشرق الأوسط في عام 2019. بدلاً من ذلك، يكشف التاريخ شيئاً عن بنائنا الثقافي له. إنه يخبرنا بشيء عن قوة التقليد القصصي العالمي. حول التوق الإنساني المشترك لعوالم لا يمكن أن تصبح حقيقة إلا في صفحات الكتب، وعلى خشبات المسرح وشاشات السينما. أو، كما غنَّى ذات يوم لصّ صيني يعيش في الشرق الأوسط يشبه توم كروز على سجادته السحرية في فيلم أنيميشن أميركي: "في عالمي، تبدأ حياة جديدة. لا تسمع أبداً "لا" هنا. لا يمكن لأحد أن يأخذ أحلامك بعيداً".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها