الأحد 2019/05/26

آخر تحديث: 09:59 (بيروت)

طرابلس الخمسينات بعيون تشيكية (2/3)

الأحد 2019/05/26
increase حجم الخط decrease
دفعت أحداث العام 1958 اثنين من أبرز الرحالة التشيكسلوفاكيين يرجي هانزيلكا (1920-2003) وميروسلاف زيكموند (ولد سنة 1919، واحتفل بعيد ميلاه المئة في شباط/ فبراير الماضي)، إلى زيارة لبنان، فانطلقا في رحلة بريّة طويلة في نيسان/ أبريل 1959 من العاصمة براغ نحو بيروت مرورًا ببودابست، بلغراد، سراييفو، سكوبيه، تيرانا، صوفيا، إسطنبول، أزمير، الساحل السوري، واستقرّا في مبنى قانصو الكائن في شارع مدام كوري في رأس بيروت. وكنت قد ترجمت فصلا من الكتاب الذي ضمّناه مشاهداتهما، والذي صدر في براغ سنة 1961، بعنوان "الهلال المقلوب"، يتحدث عن "أناس بيروت الصغار"، ونشرته ضمن كتاب "من بيروت وعنها – أوراق أوراسيّة في التفاعل الحضاري" (بيروت: دار المصوّر العربي، 2018)، يرسمان فيه بورتريهات اجتماعية للمدينة وناسها. خريف العام 1959، وصل الرحالتان إلى طرابلس، ومنها انطلقا إلى الأرز، وقد شاركهما هذه الرحلة رفيقان هما الميكانيكي أولديرجي هالوب والطبيب روبرت وست، واستعانا فيها بسيارتين من نوع "تاترا 805"، وضمّ الفصل الرابع والعشرون من الكتاب مشاهداتهما، وهو بعنوان "اثنا عشر شيخًا ذوو شباب أبدي"، تنشر "المدن" ترجمته في ثلاث حلقات، مع الصور الأصلية. هنا الحلقة الثانية بعدما نشرنا الاولى بعنوان "طرابلس والأرز في "الهلال المقلوب"
==

 بابل و"متروغولدوين ماير"

وصلنا إلى قناعة مشتركة مفادها أنّ أكثر دروس التاريخ مللا في المدرسة كانت تلك التي تناولت الحروب الصليبيّة. بكلمة واحدة أمرها مقزّز. كانت تضم قوائم طويلة من أسماء الملوك، الأمراء، الدوقات، الفرسان والأباطرة ومن جنسيات كثيرة مختلفة. تتملكهم الرغبة بين الحين والآخر في السفر، فيتوجهون على رأس قوة حربية نحو البلدان الدافئة حيث تنمو أشجار البرتقال والنخيل، وحيث يعيش المحمديون الأشرار. حسنًا، كيف يمكن لي أن أتذكر من، متى، مع من، وإلى أين توجه كل منهم؟ في أي معركة شارك، وأي مدينة أسّس، وأين مات بسبب الطاعون أو أين غرق؟

آنذاك، على مقاعد الدراسة وأمام هذه العصيدة الكرونولوجية، لم نكن نعلم أن هذه الحملات لم تكن حكرًا على رجال الدين الأتقياء المتعطشين إلى تحرير قبر الربّ في القدس من الكفار، وأن الحملات لم تكن مجرد محاولات مستمرة لتعزيز سلطة البابا وتوحيد القسم الغربي من الإمبراطورية الرومانية مع القسم الشرقي الواقع في الضلالة... لم نكن نعلم أنّ فلاحين شاركوا في الحملات كانوا يحاولون تحرير أنفسهم من سطوة اللوردات الإقطاعيين والقمع الاجتماعي، وأنه كان بين المشاركين في الحملات تجار يحاولون الاستيلاء على الأسواق ووضع أيديهم على موانئ البحر المتوسط، وأن الحملات حملت معها أشخاصا يستغلّون المشاعر الدينيّة وهدفهم تأسيس مانيفاكتورات (مشاغل) تدر عليهم أموالا طائلة.

بعد وقت قصير من احتلال دوق تولون ريمون دي سان جيل - باسم الربّ - طرابلس، ظهر في المدينة أربعة آلاف نول حريري، ويمكن القول إن الأقمشة الصوفية الحالية في إنكلترا تدين بوجودها إلى طرابلس القديمة، حين كان العرب في تلك الفترة ينسجون على أنوالهم أصواف الإبل.

القلعة التي شيّدها الصليبيّون على شرف القديس إلياس، وصمدوا بفضلها مئة وثمانين عامًا بالضبط، هي بناء قويّ للغاية. قليلة هي القلاع التي لا تزال محفوظة في أوروبا على هذا النحو. تتميز القلعة بإطلالة فسيحة على البحر. تنتصب بوابتها الجبارة المصنوعة من خشب الأرز المدعم بمسامير حديدية ضخمة. استحوذت البوابة على كامل اهتمامنا. وحده الله يعلم كيف احتفظت ببهائها كل هذه السنين، إذ يمكنها اليوم أن تصدّ هجومًا بالرشاشات الحربيّة.

يقال إن ممرًا تحت الأرض يمتد من القلعة إلى شاطئ المتوسط طوله نحو ثلاثة كيلومترات، حيث كان ينتهي في قلعة أخرى – قلعة الأسود. أقنعنا بذلك عفيف الروادي، وهو شاب يرتدي سترة حمراء ويقود دراجة هوائية مخصصة للسباقات على الطريق السريع الذي يربط طرابلس بالميناء. انضمّ إلينا بدافع الفضول، حين سألناه كيف لنا أن نستدل على سطح قلعة الأسود. من هنا، ينفتح أمام الأعين منظر واسع جميل للمدينة، والبيوت الشبيهة بقطع السكّر تتناثر على سفوح جبال سلسلة لبنان الغربية المغطاة بالثلوج البكر. تلك التي هطلت هذا الصباح. ينتصب جبل تربل في الجزء الأيسر من بانوراما طرابلس، كأنه معلق فوق بساتين البرتقال والليمون الممتدة إلى ما لا نهاية، وهي تحاصر المدينة كأنها حلقة صلبة خضراء.

- ربما أنتم متعبون وجائعون؟ - فجأة سألنا الشاب، بعدما ساعدنا في سحب صندوق أفلام الكاميرات فوق درج القلعة الحاد. كان قد ركن دراجته - تعالوا تناولوا العشاء معنا، لدى أخي مطعم خاص في الميناء، سيقلي لنا أسماكاً لن تأكلوا مثلها في لبنان.

كانت الحانة التي دعينا إليها عربيّة حقيقيّة، على الرغم من أنّ عفيف الروادي وشقيقه، وجميع أقاربهما، من الروم الأرثوذكس المنتمين إلى الكنيسة اليونانية. جلس عرب ملتحون خلف الطاولات يدخنون النارجيلة ويحتسون القهوة، وكانت أعينهم تلتمع بالشرر ويجمعون أكف أيدهم في قبضات وهم ينظرون إلى أجنبي دخيل يحمل كاميرا. إن كنت تبحث عن لقطات مثيرة، تظهرنا فيها على هيئة لا تعجبنا فمن الأجدى بك أن تطلق ساقيك للريح قبل أن نحطّم آلتك وأنفك في آن، أما عن كنت قد قدمت لمجالستنا ولتذوق طعامنا فأهلا ومرحبًا بك، أنت واحد منّا.

قادنا عفيف إلى الثلاجة، فتحها وهو ينظر بفخر إلى الصيد الصباحي، ثم سحبنا معه إلى المطبخ حتّى نتمكن من مشاهدة كيفية عمل أخيه على قلي ثلاثة فروخ من سمك البريموس، التي "لا يوجد أفضل منها في لبنان". كان ديكور الحانة رائعًا، علقت فوق رؤوسنا لوحة قديمة، يبدو أنها رسمت مطلع القرن الماضي في نيويورك، تظهر فيها فتاة جميلة وأمامها أشخاص ملتحون ذوو عمائم يقدمون انحناءة احترام. يظهر من النصّ الفرنسي - الإسباني أنّها الأميرة اليهودية إستير، التي أُسرت فقررت الزواج من الملك لتنجّي أبناء دينها من الموت [زوجة الملك الفارسي خشايارشا الأول، الذي حكم بين 485 و465 قبل الميلاد، وهو الملك الرابع في سلالة الاخمينيين]. خلف الطاولة المقابلة لنا، كانت إستير أخرى، هي إستر وليامز جالسة على لوح سباحة، مادّة ساقيها الساحرتين مباشرة نحو أطباق زبائن الحانة. سيقان إليزابيت تايلور وإيفا غاردنر، اللتان تمثلان كذلك "إمبراطورية مترو غولدوين ماير" [كبرى شركات إنتاج وتوزيع الأفلام الأميركية في أربعينيات القرن العشرين]، لم تكن أقل سحرًا من ساقي إستر وليامز. كانت إلى جانبها. وفي الجوار على الجدران علقت صور أخرى رخيصة لقلاع بافارية ومعابد بورمية.

أما في ما يتعلق بالأسماك المقلية فلم يبالغ الأخوان الروادي، فمع مشاهدته إيانا بأي شهية كنا نلتهم الطعام سارع الشاب عفيف إلى المطبخ ليطلب دفعة أخرى لنا منها. أخيرًا، وضع أمامنا على الطاولة قهوة معطّرة، وأعلن بفخر إنها قهوة عربية أصليّة. جربنا، وللمرة الأولى، القهوة المخلوطة ببذور الهيل، والتي لديها شيء من نكهة الزنجبيل. يقال إن هذه القهوة تُشرب في جميع الدول العربية. 

 


وداعًا طرابلس

طرابلس مدينة مشرقة وفريدة إلى درجة يكون فيها من الخطيئة عدم تصوير فيلم عنها. قررنا أن نخوض في ذلك مع أنّه من الصعوبة بمكان، فأن نصوّر العرب في حياتهم اليومية ليس أمرًا سهلًا أبدًا. فهم يعانون، وخاصة في المدن، من عقدة النقص التي لم تظهر لنا للوهلة الأولى. وذلك ناتج عن إرث ثقيل من الماضي الاستعماري والانتدابي. يخجلون من فقرهم ويرون إظهاره إهانة، وفي الوقت عينه يُظهرون مجموعة متفاوتة من نقاط القوّة، حين يستقوون برجال الدولة البارزين.

- تقولون إن التصوير السينمائي سيكون صعبًا، سيكون مضيعة للوقت، سنرى!

- عليك ألا تشعرهم بالخوف، فالناس هنا عقلاء، وسيتفهمون أنكم لم تأتوا كي تسخروا من فقرهم، وأنكم تريدون لهم الخير.

- أنا أعرفهم جيدًا، يكفي أن تبرز الكاميرا، ولن يحدث أي شيء جيد بعد ذلك.

- أكرر مرّة أخرى، كل هذا يتوقف على كيفية التصوير.

سكان المدينة الأصليون الذين كنا التقيناهم في بيروت لم يستطيعوا أن يتوصلوا إلى توافق في الآراء بشأن هذه المسألة.

- العالم العربي "يغلي"، كما يقال، ألم تستمعوا إلى الراديو... لقد طرُد السياح في الآونة الأخيرة من سوق التبانة، أذاعوا ذلك، وكان بينهم مصوّر إسرائيلي أراد أن يظهر العرب في أوضاع مزرية في بعض الدوريات الأميركية. وبالكاد تمكن السياح من الإفلات.

- ومع ذلك، دعونا نحاول.

عندما ركّبنا الكاميرا الكبيرة على حافة في زاوية القلعة الصليبية، لم يكن حولنا في الجو سوى ذبابة طنّانة، وكل شيء مرّ بسلاسة وسلام، وأحاطت بنا نعمة الله. أما هنا، فقد حملنا معنا السيبة ذات القوائم الثلاث إلى الطريق، وحاولنا نصبها في الحديقة الأجمل في المدينة، في الواقع هي الحديقة الوحيدة. لم يكن لدى روبرت الوقت الكافي لتوصيل كابل البطارية حتى ظهر خمسة أشخاص وقفوا على بعد مترين من الكاميرا، أمام عدستها مباشرة. وقفوا يحادثون بعضهم البعض وكأن شيئًا لا يحدث أمامهم. وكأننا، كما يقولون، كنا هناك بالصدفة البحتة.

- من فضلكم، كونوا لطفاء، ابتعدوا على هناك، نحو النافورة.

تحركوا مبتعدين ببطء شديد، إذ إنهم بالكاد كانوا ينقّلون أرجلهم، فيما كانت رؤوسهم جميعًا متجهة نحو العدسة. مرّت نصف ساعة ونحن لم نتقدم قيد أنملة في عملية التصوير، فعلى الدرب، وبدل الرجال الخمسة كان قد وفد نحو خمسين فضوليًا. لم يستطع الشرطي ولا متطوعين أن يساعدونا.

- حاولوا القيام بذلك على هذا النحو، قوموا بتوجيه الكاميرا إلى الجانب، وبمجرد أن ينفض الجمع، أعيدوا تشغيل الجهاز وصوّروا بسرعة.

حاولنا القيام بالأمر، ولكن ذلك نجح إلى اللحظة التي أردنا فيها تشغيل الجهاز، وتوجيه الكاميرا إلى حيث نرغب، وبلمح البصر أحس الخمسين شخصًا أن العدسة تدور في اتجاه آخر فهرعوا نحو الحديقة ركضًا، داسوا على العشب والورود الصغيرة وقفزوا فوق الحافة الخفيضة. فما كان من الحارس إلا أن أمسك برأسه وصرخ: من فضلكم، خلّْصُونا، أنهوا هذا العمل وإلا لن يتبقى من الحديقة شيء.

من السهل أن نقول "النهاية" [تكتب في آخر الفيلم]، لكن كيف؟

- ما الذي بقي أمامنا، أيها الرفاق، فلنرفع الكاميرا عن السيبة ولنحملها باليد، سيكون ذلك أسرع.

- فيلم للشاشة العريضة باليد؟!

- يوجد حلّ آخر، أن نشرع بالتصوير وننظر ما الذي سيحدث، على كل حال ليس لدينا شيء نخسره.

في هذه الأثناء تحلق الناس حولنا مشكلين دائرة واسعة، في الصف الأمامي كانوا متلاصقين كتفا بكتف، وكان الآخرون في الصف الخلفي يحاولون كسر الحلقة يدفعون من هم أمامهم، يضغطون يحاولون الزحف، وتضيق الحلقة شيئا فشيئا حتى باتت جزيرة الكاميرا السينمائية كقطعة فضة بين الأمواج.

- لم يبق سوى شيء واحد، أن نعرف إلى أي مدى سيصل فضولهم ورغبتهم في أن يكونوا داخل الكادر.

مئة ضد واحد. كل منهم يحاول أن يُدخل رأسه في الكادر. حتى لو كنّا على الأرض! كان يرجي قد استلقى على ظهره موجهًا الكاميرا مباشرة نحو السماء، وفوقها تحلقت الوجوه وتزاحمت الرؤوس. "النهاية".

نقطة التصوير الثانية. الكاميرا جاهزة مرة أخرى، لكن هذه المرّة على شرفة فندق كبير يطل على أحد الشوارع الرئيسة. لحظة ونصوّر. وفي تلك اللحظة اقتحم ضابط الغرفة، تتلألأ على كتفيه نجوم مذهبة.

- أنا قائد الشرطة السرّية. هل لديكم إذن بالتصوير؟

- وهل لديكم قانون أن مرسوم يقضي بأن نحصل على إذن كهذا؟

وقع الضابط في حيرة من أمره، جعل ينقل نظره بين يرجي وميريك، وانخرط في الضحك فجأة.

- في المجمل، أنت على حق.

أدّى التحية على أصولها، واختفى.

كنا على وشك تغيير شريط الكاميرا، وفجأة صرخ شخص من خلفنا "مهًلا، إنهم التشيك، انظر، ها!"، وجذب شخصًا آخر من سترته. ومن بين الجمع يظهر صاحب السترة، نرى أنّه يتزنّر بحزام ذي مسدسين. قد يكون عميلا للشرطة السرية. وجهه أحمر حتى جذور شعر رأسه ثم يشحب لونه فجأة، ويدعونا إلى شرب زجاجات الكوكا كولا معه. فهو على أي حال نبت أمامنا بالصدفة، كان مارًا في طريقه وتوقف.

في المحصّلة، وصلنا مع محاولات التصوير في طرابلس إلى حائط مسدود. الكاميرا موجّهة إلى واجهة محل تجاري حديث يستند إلى جداره الخارج ماسح أحذية لا يظهر في الكادر. إلى جانبه نحو عشرة أشخاص يصرخون حولنا: نو غود، نو فيلم! في العدسة قطيع من السيارات الأميركية، وخلفها بائع زجاجات الصودا يدفع عربته، وهم يصرخون من جديد: نو غود، نو فيلم! ومن جديد خمسة أزواج من الأيدي تغلق عدسة الكاميرا. في الكادر إعلان مضاء بالنيون باللغة العربية. – نو غود، نو فيلم!

أردنا أن نصل على نهاية قصّة فيلم واحد على الأقل عن نخيل طرابلس. كنا قد التقطنا صور الثمار على الأشجار. قاطفو البلح كان وعدونا ثلاث مرات بالمجيء وأخلفوا وعدهم ثلاث مرات. ما العمل؟ على الأقل فلنصور عملية بيع البلح على طرف السوق، ها هنا، بالقرب من الصيدلية. اخترنا أكثر بائعي الفواكه نظافة كان في قميص أبيض ثلجي. أتممنا التحضيرات في دقيقة واحدة، ولكن.. يد تغلق عدسة الكاميرا. وقف قبالة العدسة رجل مهندم مع حقيبة يد. لم يجذبه أحد من سترته هذه المرّة. 

- لا يمكنكم أن تصوّروا هنا.

- في هذه الحالة، ألا يمكنك أن تقدّم لنا نصيحة، أين يمكننا أن نصوّر فيلمًا في طرابلس؟

- الشارع الرئيس في المدينة، والحديقة تحت تصرفكم.

- نصيحة جيدة، أغلى من الذهب.

شكرًا. حزمنا أمتعتنا. وداعًا طرابلس.

 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها