الخميس 2019/05/02

آخر تحديث: 12:59 (بيروت)

"يا ويلي النهاية" لهاشم عدنان...انزلاق الشخصيات داخل أنفاسها

الخميس 2019/05/02
increase حجم الخط decrease
لم يعتمد مروان البزري ترجمة أو لبننة حرفية لمسرحيات صموئيل بيكيت القصيرة... الأمر كان شغفاً بالنسبة إليه، امتدّ لسنوات وارتبط بمسارٍ شخصي، أتى بمثابة علاج من نصوص الكاتب المسرحي التي كلما قرأها شعر برغبةٍ في البكاء، ففكّر: "إن عملت على كتابة هذه النصوص بالعربية لربما أتوقف عن البكاء!". 

لدى سماع كلمات بيكيت، بلغة البزري، خلال عرض "يا ويلي النهاية" للمخرج هاشم عدنان، الذي ينطلق اليوم الخميس في فضاء "مانشن"، قد تتملكك الرغبة في قراءة النص بمعزل عن أي تدخلِ آخر. فلشدة حميميته، يصبح فعل السماع انتهاكاً آخر لكلمات بيكيت-البزري. المعضلة أنه عندما تنفرد بقراءة بعض مما ترجم مروان البزري، قد تعتريك رغبة الهروب من النص. هكذا، يصبح فعل التفاعل مع ترجمة البزري فعلاً "بيكيتياً" بامتياز. فالبزري اشتغل على الموسيقى والسجع في ترجمته الى العربية، وهنا تتحوّل اللغة الى حالة تنقل الى المتلقي، انفعالات وأحاسيس عصية على الفهم. الأمر الذي يجعل مهمة هاشم عدنان كمخرج، شاقة.

يقدّم عرض عدنان، خمس مسرحيات قصيرة لصموئيل بيكيت بلغة عربية "ملبننة" في معظمها، وهي تحمل العناوين التالية: هيديك المرة (That time)، مش أنا (Not I)، فاصل دير القمر (Ohio Impromptu) وضلك عم تهزّيلا (Rockaby)، "مفاصل ترتعش" (Stirrings Still).
 
في فضاء مانشن، هذا البيت القديم، تُطعَّم وحدة شخصيات بيكيت، بوحشة المكان وهجر الحكايا العالقة في ثناياه. من "مفاصل ترتعش" التي استهل بها عدنان عرضه من شرفة البيت الخارجية، كما لو أن العرض بدأ بمسارٍ معكوس الى نص "هيديك المرة"، انتهاءً بـ"ضلك عم تهزيلا"، تتبدى العلاقة مع الزمن في وحدةٍ قاتلة تجسدها شخصيات مسرحيات الكاتب الإيرلندي. هشاشة الفرد وشعوره بالوحدة والعلاقة مع الذاكرة والعلاقة مع الذات، تلك هي عناصر الدائرة المفرغة التي وضعنا فيها معشر "يا ويلي النهاية". كما لو أن كل شخصية من تلك الشخصيات، تبني في كل لحظة وجودها، بالعودة الى ما كان وما سيأتي، في علاقة ملتبسة مع الوقت والمكان وصولاً الى اللحظة  النهائية. النصوص التي انتقاها البزري ليصار الى ترجمتها، والتي تلقفها هاشم عدنان وأبدى رغبته في إخراجها، تقدّم شخصيات تذوي وتذوب في المكان، كأنها موجودة وغير موجودة في الوقت نفسه، أو كأنها تختفي للحظات ثم تعود لتنتظر لحظة الموت النهائية.

في بداية العرض الذي بدأ من الباحة الخارجية، فتح هاشم عدنان الباب داعياً الحضور الى الدخول، وأنهاه بمونولوغ الرجل الذي يضع رأسه بين يديه جالساً على طاولة مستطيلةٍ، يحدق في كتاب قائلاً: "لغاية ما صار مارق دقات وصمت من آخر مرة انشاف فيا يمكن قال خلص، ما بقى يرجع ينشاف، لغاية ما صار نازل صمت من آخر مرّة انسمعوا الدقات فيا، يمكن خلص ما بقى يرجعوا ينسمعوا... حس رح تكون هيدي النهاية... ويللا مرة تانية متل أمسانة، هوي هلق هون وهلق راح وهلق رجع هون ورجع راح لحد ما يللا مرة تانية متل أمسانة وتانية وتانية وهيك بقى صَبر لحد ما تجي النهاية الوحيدة الحقيقية تبعيت الزمن والقهر والنفس والنفس التانية يعني تبعيتو هوي". ثم تصرخ كارول عبود "يللاااااااا"... صرخت عبود مراراً "يللاااااااا"... كما لو أن تلك الكلمة، هي اللازمة التي ترتق نصوص عرض "يا ويلي النهاية"، وتربط بعضها ببعض. تلك الكلمة التي تحاول التغلب على مفهوم الوقت، تذكّر بأصل الحكاية. يقول الفيلسوف مارتن هايدغر إنه لا يمكن فهم معنى الوقت لولا إدراك الإنسان لفكرة الموت... وهنا التيمة المتكررة التي نقلها بيكيت في معظم مسرحياته. في "هيديك المرة"، النص الثاني الذي قدمه عدنان، ينقل الممثل ساسين كوزلي، هذيان شخصية واحدة عبر ثلاثة تسجيلات صوتية، تغوص في غياهب الذاكرة بين الطفولة والحب والكهولة... وكلما تقدّم النص باتجاه نهايته، في عملية تكرار مثابرة، كلما شككت هذه الشخصية في أن ما جرى قد جرى حقاً في لحظةٍ ما.

اختار عدنان أن تؤدي شخصيات مونولوغاتها بلهجات محلية، تراوحت بين اللهجة البقاعية القريبة الى البعلبكية، والجبلية. هذا التصرّف أضاف إلى الترجمة المعتمدة، هجراً آخر، مترس نصوص بيكيت في خانةٍ سوداوية عبثية قصوى، بينما اعتمد لهجة بيضاء في نصَّي "فاصل دير القمر" و"مفاصل ترتعش"... اختلف نمط ترجمة وأداء هذين النصين، اللذين اعتمدا جملاً متقطعة متسلسلة.

كانت نصوص "مش أنا"، "هيديك المرة" و"ضلك عم تهزيلا"، مبنية على سجعٍ وموسيقى أساسه النَفَس الواحد. كما لو أن كل نفَس يتنفسه المؤدي، والمترجم قبله، يختزل حياةً بأكملها، وكل نفس يليه، هو تنويعُ آخر للحظة واحدة ونَفَسٍ واحد، يتكرران على شاكلة تداعيات الى ما لا نهاية. هكذا تتبدى العزلة والإنسلاخ عن العالم في انزلاق شخصيات هذه النصوص داخل أنفاسها. تلك الأنفاس الوحيدة المتتالية التي تشرذم سيران الوقت ومضيه الى الأمام، عبر تكرار اللحظة ذاتها وصولاً الى النهاية. في نص "مش أنا"، امرأة - كارول عبود- لم تتكلم في السابق، وعندما تبدأ بالكلام لا تتوقف. تتنقل في المكان وفي الخلف، يظهر فيديو فمّ يكرّر أو يكمل ما تقوله، بينما تمسك في لحظةٍ ما هاتفاً ذكياً يرتفع الى أعلى. تلك وسائط تثبت أكثر فأكثر الإشتغال والتلاعب بالذاكرة والكلمات، كموطن وحيد لشخصيات بيكيت. يذكر عنصر الفيديو هذا بالعرض الأصلي الذي نفذ العام 1973، والذي لا يقدّم شيئاً على الخشبة سوى فم، فمّ الممثلة بيلي وايتلو الذي يتحرك وسط ظلمة حالكة. وفي العام 2000 أعادت جوليان مور تقديم النص عبر فيلم من إخراج نيل جوردان.

حرص عدنان، كمخرج، أن تكون حركة الممثلين مينمالية الطابع. السينواغرافيا التي اختارها كل من حسين نخال ودافيد حبشي، للعرض، تزيد من الشعور بالإنسلاخ عن العالم: طاولتان وقطعة قماشية سوداء، كرسي هزاز، وتجهيز فيديو يملأ الفضاء بخطوط متعرجة تجريدية فيها من التناقض، ما يجعلك تشعر أنك داخل رأس هذه الشخصيات أحياناً، وأنك تنظر الى الكرة الأرضية من مكانٍ بعيد أحياناً أخرى. الأزياء التي صممتها لاريسا فون بلانتا، تتماشى مع هذا الجو: ثياب أشبه بجلابيب سوداء وجاكيت فضية وثوب كائن غريب، ترتديه كارول عبود كأنها لوسي جَدّة البشرية، هنا يتراوح الزمن بين جلباب تقليدي ورداء مستقبلي.


(*) يتزامن تقديم العرض مع سلسلة من الأنشطة، منها تجهيز فني، وحلقتا نقاش في 2 و3 أيار/مايو 2019. الحلقة الأولى حول المسرح ودوره في خلق فكرة جديدة قابلة لتخطي الزمن الحالي المصبوغ بالأبوية والرأسمالية. والحلقة الثانية حول مسألة اللغة ورغبة الكتابة باللغة العامية وأسبابها والصعوبات التي تواجهها. بينما تنكب منشورات "صنوبر بيروت" التي تولت ترجمة ونشر بعض نصوص مروان البزري، ومنها نص "مفاصل ترتعش"، على تنظيم مشغل ترجمة وحفلة توقيع كتاب "كيف الحال" الذي ترجمه البزري عن نص Common C لبيكيت. 

(**) صور العرض من تصوير كاونستانز فلام.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها