الأحد 2019/05/19

آخر تحديث: 18:14 (بيروت)

خلدون النبواني... لا ترجموا أحمد برقاوي(*)

الأحد 2019/05/19
خلدون النبواني... لا ترجموا أحمد برقاوي(*)
increase حجم الخط decrease
 
ليس علينا ونحن متجهون لتأبين الراحل الكبير طيب تيزيني أن نحفر قبراً آخر لأحمد برقاوي. دعونا ننسى قليلاً حرفة القتل السوريّ ونتعلم، ولو لمرة، أن نسامح حتى من ارتكب خطأً قاتلاً. لا ينقصنا خسارة مفكر آخر في زمنٍ يعزُ فيه الفكر ويكثر فيه التكفير، ينعدم فيه التسامح ويستشري فيه القتل. كلنا يخطئ وأحمد برقاوي قد أخطأ بالوصف والتوقيت والأسلوب المتعالي الخاص به، لكن هذا لا يعني فتح النار عليه كما فعلنا منذ الصباح بما فيهم أنا.


لبرقاوي شخصيته النزقة ومزاجه المُتقلب المُتعِب، ومن يعرفه عن قرب يعرف أنه خلف كل تصريحاته الصادمة والقاسية هناك شخص، نبيل في العمق، وقلبٌ طيب لا يؤذي، بل يحب. صدقوني برقاوي لا يؤذي نملة (اللهم الأذى اللفظي) على خلاف البعض ممن يخربون البيوت. بل على العكس هو شخص يمد يده للمساعدة وقد ساعدني شخصياً مثلاً وأنا طالب في إخراجي من ورطة شحطي إلى الجيش وضياع بالتالي مستقبلي الأكاديمي بقصة طريفة قد أرويها يوماً. قد تسمع من البرقاوي مثلاً أن محمود درويش ليس بشاعر، لكنه محب لدرويش كثيراً كشخص وكشاعر، بل إن برقاوي قد يقول لك مقهقهاً أن المتنبي لم يكن شاعراً بينما تجده يترنم في كل مناسبة بأبيات للمتنبي وغيره. برقاوي يقدِّم في كل مناسبة تصريحات نارية ضد صادق العظم تجعل الشخص يشد شعره ويفتح فمه، لكن صداقته مع العظم قوية جداً رغم كل ما يقوله ضد صاحب "نقد الفكر الديني" وعندما مُنع العظم من مغادرة سوريا قبل اندلاع الأحداث بسنوات قليلة كان برقاوي هو من توسط له عند نجاح العطار ليسمحوا له بالسفر.

كنت شاهداً على كرم أحمد برقاوي مرات ومرات وكنتُ أندهش من المال السخي الذي كان يدسه، بعد استلام راتبه، في يد المستخدم اللطيف في قسم الفلسفة ويقول له بهمس هذا للأولاد. برقاوي الذي لم يتعرف عليّ في إحدى زياراتي إلى سوريا ولم يرد على سلامي له هو نفسه الذي ما أن رآني في زيارتي التالية لسوريا في قسم الفلسفة (وكنت أريد تحاشيه لما فعله معي المرة السابقة) هو نفسه من أخذني بالأحضان صارخاً: النبواني ثم ساحباً أياي من يدي ومتصلاً بكل من الراحل صادق العظم والدكتور يوسف سلامة داعياً أياناً جميعاً إلى غداء على حسابه في مطعم دمشقي بالقرب من باب توما.

أحمد برقاوي هو هذا الإعصار غير المستقر، لكنه المحب حقيقة من الداخل. كلنا كان يعرف خلافه الفكري مع طيب تيزيني وكان لا يوفره بالنقد المنطلق بقوة وبقسوة كعادة برقاوي تجاه كل شيء وأي شخص، لكن دون خلفية خبيثة.

أعرف أن كلامي هذا لا ولن يعجب البرقاوي وقد أخسر صداقته على إثر ذلك، لكن أجد من واجبي أن أقول كلمة حق تجاه الرجل الذي، كعادته، يتكلم حين يريد هو الكلام حتى ولو كان في أسوأ الأوقات.

طيب تيزيني رغم اختلاف معظمنا مع أيديولوجيته الطاغية يظل مفكراً كبيراً وإنساناً عظيماً والاحتفاء الشعبي الذي يشهده اليوم يؤكد على ذلك، لكن لنعذر كبوة برقاوي ولنصفح ولنفتح الأبواب أمام التسامح وإلا لبقينا في دائرة القتل والقتل المعنوي.

كلنا نخطئ، وعلينا أن نتفهم ونغفر ونفتح النقاش لا النيران أما من كان منكم بلا خطيئة فليكن أول من يرمي البرقاوي بحجر.
 

____________
أحمد نسيم برقاوي
توضيح: 
أثار عزاؤنا بطيب تيزيني حفيظة كثير من الأصدقاء وغير الأصدقاء، ووصلت ردود الفعل على ما قلنا حد استخدام الشتائم من أناس لا نعرفهم ،ولكنه تبين أنهم في عداد الذين وافقنا على قبول صداقتهم. لأننا بالأصل نادراً ما نطلب صداقة أحدٍ لا نعرفه معرفة جيدة وحميمة، بل ونتردد حتى في طلب صداقة الأقربين.

وكل ما قلته بضع كلمات هي: بأني لم أعجب ولَم أستحسن ولَم أرض. والإستحسان والإعجاب والرضى مسائل ذاتية شعورية قد تقال بحق أقرب الأقربين. وهذا أولاً حق من حقوقي، وكل زملائي في القسم وطلابي القريبين مني والذين صاروا أصدقاء وزملاء وأصدقائي يعرفون موقفي ورأيي هذا. وليس هناك أسباب تحملني على تغييره بسبب رحيل الرجل .
وليس هذا فحسب فإن أصدقائي وزملائي الذين يشاركونني الرأي، وأعرف بأنهم يشاركونني، وبيننا نقاش حول طيب، كانوا أكثر كياسة مني وتحولوا فجأة إلى مادحين للرجل، وهذا حقهم . مع أن الرثاء في العربية هو الكلام مع الدمع ليس إلا.
هؤلاء، وامتثالاً لذهنية الرثاء العربية، التي هي مدح، قالوا ما يخالف قناعاتهم. لقد رثيت الرجل وأنا أختلف معه اختلافاً يصل حد التناقض معبراً عن هذا الإختلاف. وهذا لعمري أمر فكرت به طويلاً. 
بقي أن أقول إن الذين تكدر خاطرهم وراحوا يشتمون لم يطلعوا على صفحة واحدة من أي كتاب من كتب الراحل، وليس هذا فحسب، بل إن بعض من عبروا عن انزعاجهم لا يعرف تيزيني إلا من خلال نقلي لهم شفاهياً زاوية رؤيته للتراث. 
وبكل الأحوال فإني لم أكن أريد الإساءة للرجل لا من بعيد ولا من قريب، ولا الإساءة لأحد من محبيه أو من يسمعون باسمه ،ولا علاقة لما قلته بأي أمر متعلق بالمسألة الوطنية ،كما تهيأ لبعضهم. وما كنت أتوقع أن ينشغل الناس، بنوع من الرثاء مختلف على هذا النحو الذي وصل عن بعضهم حد المهاوشة والمشاجرة والمهابشة، وفي هذه الظروف الصعبة.
مرة أخرى العزاء العميق لأهله ومحبيه.
(*) مدونة كتبها خلدون النبواني في صفحته الفايسبوكية للتعليق على ردود الفعل التي، جاءت ردا على طريقة رثاء أحمد برقاوي للطيب تيزيني، ننشرها هنا الى جانب توضيح برقاوي حول الردود...
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها