على أن الوجه الآخر للخطابة الباسيلية، يكمن في توظيف أسماء بعض الشخصيات السياسية "التاريخية" واللعب على وترها. ففي إحدى جولات الاغتراب، نُسب إلى باسيل قوله للمغتربين المسيحيين: "أنا سأنسيكم بشير (الجميّل) وكميل شمعون". وراجت تأويلات عن باسيل وطموحاته. فأن يتحدث عن شمعون وبشير، فهو بذلك يتطرق إلى الرئيسين الأشرس في تاريخ الرؤساء الموارنة في لبنان، ومن دون شك يلعب باسيل هنا على الوجدان وحلم "الجمهورية الأولى" والمجد الغابر. ويمدح أحد صحافيي موقع "التيار العوني"، باسيل، و"ديناميته الفوّارة التي لم تألف لها بعض الطبقتين السياسية والإعلامية، وهما اعتادتا الخمول السياسي والكسل الفكري والتسليم بمشيئات المؤثّرين والأبواب العالية". ويزيد الصحافي من تقريظه قائلاً: "لم يلمس يوماً عارفو جبران باسيل أنه، على سبيل المثال، يتمثّل بشخصية بشير الجميل. هو لم يقتبس يوماً من خطبه. لم يلهج يوماً بعباراته أو فكره. لم يمشِ يوماً مشيته (السياسية- العسكرية)، أو يرتدِ بزّته المرقّطة ونظّاراته السوداء الشهيرة. مع ذلك، ثمة من يصوّره على أنه النسخة المحدّثة من بشير، وصولاً حتى وصفه بأنه أكثر دهاء ومكراً".
لا يخفي بعض المراقبين أن الحالة العونية كانت مزيجاً من بشير الجميل وكميل شمعون، لكن ما هو المآل الذي انتهت إليه الظاهرة الشمعونية؟ والظاهرة البشيرية؟ هنا موضع النقاش...
أبعد من ذلك، كثيراً ما يلجأ باسيل الى استحضار رموز المناطق والعصبيات المحلية (الموارنية تحديداً). فخلال جولته في زغرتا، قال: "تاريخنا ليس بعيداً من تاريخ يوسف بك كرم الذي تآمر عليه الجميع لكنه كان بطلاً". لم يقل الوزير القوي أوجه التشابه بينهم وبين يوسف كرم، وربما كان هدفه التقرب من أهل زغرتا من خلال التذكير ببطلهم "الأسطوري". لكن أبلغ ردّ عليه كتبه أحد الفسابكة من آل الخازن، قائلاً: "بتشبّه حالك بيوسف بك كرم.. لو بتقرا تاريخ بتعرف انو ما حدا خلّص لبنان من طانيوس شاهين الا يوسف بك كرم". والنافل أن باسيل قال في انتخابات 2018 خلال جولة في كسروان: "هنا أرض الثورة على الإقطاع التي بدأت مع طانيوس شاهين الذي أعلن الجمهورية من كسروان". وبين رمزية يوسف بك كرم الزغرتاوية، ورمزية طانيوس شاهين الفلاحية الكسروانية، يقع التناقض وتسقط الاستعارة التاريخية في اللاشيء، أو في الهذر اللفظي، ويُستعمل التاريخ بطريقة هلامية شعبوية، بل يتمظهر لنا عدم قراءة التاريخ فعلاً. يوسف بك كرم، الزغرتاوي الذي اعتبره جبران مرآة لحزبه وبطولاته، هو نفسه من ساهم في إخماد ثورة طانيوس شاهين في كسروان، وشاهين هو نفسه الذي اعتبره باسيل رمزاً لحركته الانتخابية "ضد الاقطاع"!
ولطانيوس شاهين، صور أخرى رسمها
المؤرخ كمال الصليبي، فهو ليس بتلك المثالية التي رسمها له بعض اليسار اللبناني لمجرد أنه "ضد الاقطاع". أما يوسف كرم، فكان قد برز كـ"بطل ماروني" في الحرب الأهلية العام 1860، ثم عيّنه فؤاد باشا قائمقاماً مسيحياً، بدلاً من الأمير بشير أحمد أبي اللمع، بفضل مساندة بيكلار - المفوض الفرنسي في اللجنة الأوروبية الخاصة بسورية. كان هذا الوجيه الماروني الصغير من الشمال اللبناني، الطموح للغاية والمتبجح، قد وضع آماله في أن يصبح حاكماً وطنياً لكلّ البلاد بمناسبة إعادة تنظيمه.
وسبق أن
كتبنا أن آمال السلطة حركت يوسف كرم، طوال 15 سنة، ضد المتصرفين الذين حكموا خلال الفترة (1862 – 1877). لكن الحركة، من حيث قاعدتها الشعبية المارونية ذات الطابع الفلاحي وإمكاناتها، كانت مرهونة في نهاية المطاف بموقف الكنيسة المارونية. ففي الفترة الأولى من عهد المتصرف الأرمني الكاثوليكي داود باشا، المدير السابق للبريد والبرق في القسطنطينية، عرض على يوسف كرم شغل مناصب عديدة، بلا جدوى. وعاد كرم إلى قريته إهدن، ليعلن معارضته المفتوحة، ونُفي إلى مصر من العام 1861 حتى 1864، ولم يعد إلى لبنان إلا ليدبر عصياناً مسلحاً شدّ الانتباه الى مطالب أهالي الشمال في لبنان، وتميز موقف الكنيسة بدعم شديد لحركة العصيان التي قادها يوسف كرم. فالخوارنة في القرى كانوا يدعون الناس في الكنائس للمشاركة الفعلية، ثم حولوا الأديرة إلى مراكز للتجمع والتعبئة، وحمل الكثير منهم السلاح مع كرم.
يصف ندره مطران هذا الواقع فيقول: "بفضل الدعاية الدينية أصبح كرم "بطلاً أسطورياً" نسبت إليه أعمال حربية خارقة، وأشيع أن السيدة العذراء ظهرت عليه، ووضعت صورته في الكنائس، وكأن الناس أصبحت على اعتقاد أن المخلص أتى أخيراً(...)". إلا أنه بعد هزيمة كرم العام 1866، والتي لم تكلف داود باشا شيئاً يذكر، تبخرت هذه الدعاية بسرعة، فالكنيسة تخلت فجأة عن يوسف كرم، وكتب البطريرك إليه يدعوه إلى الامتثال والخضوع لأوامر المتصرف.
الارجح أن استحضار التاريخ وشخوصه عند معاليه، مثل استقراء الانتصارات والإنجازات ومحاربة الفساد، ومثل الحرب على الاقطاع بمزيد من الاقطاع.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها