الخميس 2019/04/04

آخر تحديث: 18:06 (بيروت)

هذه بيروت.. يا باريس

الخميس 2019/04/04
هذه بيروت.. يا باريس
الصورة لميريام بولس بعنوان "يوم الأحد"
increase حجم الخط decrease
"هذه بيروت؟ فعلاً؟".. عبارة قد يرددها في نفسه أي لبناني يمرّ بالملصق الإعلاني لمعرض C’est Beyrouth، والمنتشر بكثافة في أنفاق مترو باريس. فالصورة المعنونة "يوم الأحد" بكاميرا ميريام بولس، والتي اختارها القيمون على المعرض للملصق، تظهر عاملة أجنبية سمراء في حفلة راقصة على ما يبدو، متبرّجة، وسعيدة إذ تتسلى مع رفيقاتها في يوم عطلتها الأسبوعية. 

بالطبع، الصورة مُلتَقطة في بيروت. وكلنا يعلم أن بعض العاملات الأجنبيات في لبنان يتمتعن بحرية حركة يتيحها لهن أرباب عملهن، أو توفرها ظروف عملهن لحسابهن من دون أن يكنّ مقيمات في منازل العائلات "الكفيلة". لهؤلاء العاملات مجتمعات مصغرة، غالباً بحسب جنسياتهن أو أعراقهن. ولهذه الجماعات حيوات كاملة، ربما يصح وصفها بالموازية لمجرى الحياة اليومية اللبنانية وعاداتها ومفاهيمها التي لا تنقصها حكايات التمييز/العنف ضد العمالة الأجنبية، في الأجور وظروف العمل، وحتى بالمعنى الإنساني المرتبط بالثقافة ولون البشرة. وقبل أن يفكّر الرائي في جماليات ومعاني التيمة التي عملت عليها المصوّرة، أي إعادة المعطى الإنساني الصافي لفئة مهمشة في المجتمع اللبناني هي حاضرة فيه بقوة، وفي الوقت نفسه غير مرئية على المستوى الاجتماعي والبشري.. فإن المتلقي، العارف ببيروت وتناقضاتها، يجد نفسه متسائلاً عما إذا كان رد فعله الاستغرابي الأول ليبرز هكذا لو أن المعرض مقام في بيروت، حيث يمكن أن يمسي الاستغراب تلمّساً لتحدٍّ ما، يطرحه المعرض على محيطه، أو ربما تكون السخرية المُرّة، أو الاشتباك مع المعنى لإعادة امتلاكه.. ثم إن التساؤل نفسه ينسحب على دَور المكان الباريسي في توليف نظرة مغايرة للملصق، والمعرض ككل.



يقام معرض "هذه بيروت" الذي نسّقته سبيل غصوب، ويشارك فيه مصورون فوتوغرافيون وفنانو فيديو لبنانيون وأجانب، في "معهد ثقافات الإسلام" (Institut des Cultures d’Islam) الكائن في حيّ مكتظ بالمهاجرين الأفارقة والآسيويين في دائرة باريس 18. وفكرته الأساس تتمحور حول إظهار مناحي التنوع الهائل الذي تحتضنه بيروت بكل ما تمثله ثقافياً وتاريخياً، بمتوّسطيتها وانفتاحها وتعصّبها وحروبها، بخليطها المحلي الطائفي والجيليّ، وبألوان القاطنين فيها من غير اللبنانيين كلاجئين وعاملين. وفي بعض جوانبه، يسائل المعرض، فنياً، أنماط السلطة اللبنانية، إضافة إلى الجندر وكيف يعبّر عن نفسه في الفضاءَين العام والخاص. وبالتالي، فإن موقع المعهد المُضيف، إضافة إلى ما تغلي به الحياة اليومية الباريسية من تنوع بشري تحت سقف قوانين تجهد ويجهد مشرّعوها، من حيث المبدأ، كي لا تكون تمييزية بأي شكل من الأشكال، هذا الموقع قد يحث في الزائر إحساساً بغنىً هادئ، احتوائي أو تجاوُري، يحكم تعايش كل هذه الأنواع في بيروت، لا سيما أن كل فنان ركّز على موضوعه وانغمس فيه وحده – وهذا على الأرجح طبيعي ومتوقع.

بيد أن الحقيقة التي يدركها جيداً العارفون ببيروت هي أن "التعايش" هذا معجون بالتأزم، والصراعات الكامنة والمكشوفة. صحيح أن البطاقات التعريفية بكل فنان ومشروعه، والملصقة على جدران المعرض، تلخص معظم الأزمات بمهنية، خصوصاً في ما يتعلق بالعمالة الأجنبية والمثليين جنسياً واللاجئين الفلسطينيين والسوريين وسواهم، إلا أن الإشكالية القديمة – المتجددة لا بد أن تخطر في الذهن. وذلك على طريقة ما أثارته يوماً – ولا تزال - "مَبوَلة/نافورة" مارسيل دوشامب، عن تحوّل قطعة ما إلى عمل فني، بحسب مكان وطريقة عرضها، وبموازاة الجدلية الدائمة عمّا يجعل فضاءً ما متحفاً أو غاليري. والإشكالية هي: هل التيمات ومشاريع الفنانين المختلفة تشكل، ههنا، قطع فسيفساء يتكوّن منها – مجتمعةً – وجه بيروت؟ أم أنها وجوه بيروت الكثيرة، كل منها مستقل عن الآخر ومتكامل معه في الوقت عينه؟ وهل يقوم عنوان المعرض "هذه بيروت" بوظيفة الجمع هذه؟ بمعنى: ما الذي يجعل لعنوان ما وظيفة التكثيف الفني والتعبيري لما يندرج تحت مظلّته من أعمال فنية؟ المكان أم الجهد التنسيقي؟

ومضات من "هذه بيروت"
من جهة ثانية، لا بد من القول إن غالبية الفنانين المشاركين في المعرض استطاعت سبر أغوار "مواضيعها" والتعمّق فيها استيطيقياً ورمزياً.. هكذا:



تمكن حسن عمار من جعل الوشوم المذهبية والحزبية التي اختار بعض الشبان الشيعة تنفيذها في أجسادهم، أشبه بلوحات حية، تنبض بما يؤمن به أولئك الشبان ومنظورهم لهويتهم وانتمائهم، لا سيما في مرحلة مشاركة "حزب الله" اللبناني في الحرب السورية. الخلفية السوداء المعتمة خدمت هدفين في آن: التذكير بالقماشة الكربلائية لقناعات الشبان، وتسعير أجسادهم المضاءة بفحولة دينية وجنسية مع إخفاء رؤوسهم ووجوهم، إذ أنهم ههنا أجساد فقط، للقتال والتزيّن والبقاء.



وبدت لقطات زياد عنتر لعناصر قوى الأمن الداخلي، داخل الاستديو الخالي إلا منهم ومن دراجاتهم النارية، شديدة البلاغة والبساطة في وقت واحد، إذ فرّغت السلطة من سطوتها، وجذبتها إلى مساحة المفارقة والخفّة بمجرد تغيير سياقات الشارع الذي عادة ما يتواجد ويعمل فيه رجال الدرك.

أما فياني لو كايير، فلاحقت كاميراته الأجساد الذكورية البرونزية في كورنيش بيروت، اللامعة بزيوت التسمير، والقائمة بالصلاة، ومفتولة العضلات على الشاطئ المجاني والذي لا تصلح مياهه للسباحة بالضرورة، لكنه مساحة لأجساد الطبقات الاجتماعية الدنيا كي تبرز وتلهو وتقدّم خالص ذكورتها.



وانغمس باتريك باز في الحياة اليومية المسيحية، وببراعة استطاع الالتزام بهدفه وهو التسجيل البصري، من دون أي حُكم من أي نوع، ومن دون الادعاء بمقاربة تاريخية. فتتقاطع الأجساد في صور باز، أجساد المؤمنين وأجساد/تماثيل القديسين، ليمسي الإيمان فعلاً حسياً ومشهدياً. المرأة التي تتكئ على تمثال المسيح المصلوب، والشاب الذي وشم جسده بالصلبان، ويعبر الشارع محمولاً على الأكتاف تمثالٌ ضخم لمار شربل.. هكذا يتمسّح الناس بالمعجزات ليكونوها.

أما مائدة الإفطار، خلال شهر رمضان، فعاينتها ناتالي نقاش بعَين الطبقة والمحيط الاجتماعي. بعض الموائد تلتف حولها، على الأرض، محجبات. والبعض الآخر طاولات سفرة فارهة تجلس إليها فتيات بثياب تنحسر عن الكثير من مفاتنهن المُعتنى بها. وأحياناً تكون المائدة "طبلية" في الشارع إلى جانب بسطات الخضار والفاكهة. في حين لاحقت سيرين فتوح "المسحراتي" في رمضان وأنجزت شريط فيديو عن تلك الشخصية التي لطالما سمعتها، وهي طفلة، لكنها لم ترها أبداً، ومع ذلك نسجت عنها في مخيلتها أساطير وحكايات.

داليا خميسي صوّرت يوميات اللاجئين في مخيماتهم، وأنجز الكاتب وفنان الفيديو كريستوف دونر شريطاً قصيراً عن فنان فلسطيني لاجئ في لبنان، يحول التنك والحديد والخشب إلى أعمال عن الحرية والعودة. والثنائي جوانا حاجي توما وخليل جريج أجريا مقابلات مصوّرة مع شخصيات اعتبراها ممثلة "للأشخاص الذين نقابلهم ولا نراهم"، ليكوّنا شريطاً أقرب إلى السينما كفنٍّ ممزوج مع التقنية الصحافية/الوثائقية في إجراء المقابلات. والشخصيات المنفية هذه هي: راقصة روسية، لاجئ سوري، طبيبة عراقية، شاب نيجيري كان يقوم بعمليات نصب واحتيال عبر البريد الالكتروني، ومراهقون ولدوا في لبنان وهم مكتومو القيد أو بلا أوراق ثبوتية. في حين حوّل فؤاد الخوري، يومياته التي دوّنها خلال حرب تموز 2006، إلى فيلم قصير مصاحب لقراءته اليوميات بمشاهد من بيروت التي كان فيها خلال الأيام الأولى من الحرب، واسطنبول التي مكث فيها فترة بعد ذلك، والاسكندرية حيث كانت حبيبته في تلك المرحلة.



تشا غونزاليس صوّرت الحياة الليلية للشباب "الحرب التي تعتمل في داخلنا من خلال الحفلات. إنها تعبّر عن حاجتنا للهروب من الواقع، لعيش تجارب قصوى، لإيجاد الدفء في الآخرين، لتعويض إحساس بعدم الرضى، الإحباط الجنسي، والوحدة".



المصوّر محمد عبدوني، الذي يعمل منذ العام 2015 على صنع أرشيف يؤرخ لحيوات المثليين العرب (LGBT+)، لا سيما الفنانين والمؤدين والناشطين منهم ومنهن، صوّر "قصة" أمّ لبنانية أرمنية مع ابنها "الكويري" تحت عنوان "دوريس وأندريا".

فيما اشتغل روي ديب شريط فيديو بعنوان "مونديال 2010"، حيث تخيّل في النص المصاحب له، رحلة يقوم بها شابان لبنانيان مثليان جنسياً إلى رام الله. والنص متخيل لأن الحدود مغلقة بين لبنان وفلسطين المحتلة، كما هو معلوم، إلا أن المشاهد حقيقية لرام الله ويومياتها وأحيائها. والشريط الصوتي المصاحب للرحلة البصرية، كناية عن الحوار الدائم بين الشابين المتحابين، واللذين يتحدثان عما يواجهانه يومياً في مجتمع يعتبر علاقتهما خرقاً سافراً للآداب العامة، كما يتنقاشان في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، ما يغطس القارئ في رحلة عجيبة يمتزج فيها الخيال بالواقع، والسياسي بالشخصي. 

هذه هي إذاً بيروت؟ ربما.. وربما هي المدينة التي لا يحصرها غاليري. 


increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها