الثلاثاء 2019/04/30

آخر تحديث: 13:14 (بيروت)

سياحة في جِلد المهاجر

الثلاثاء 2019/04/30
سياحة في جِلد المهاجر
لا شك أن النشاط، بمحتواه وإعلانه، أثار اعتراضاً فرنسياً عليه
increase حجم الخط decrease
قبل أيام، أطلق الفرع الشبابي في الصليب الأحمر الفرنسي في "فانديه"، نشاطاً بعنوان "هرباً، في جِلد مهاجر"، وتدور المشاركة فيه حول محاكاة تجربة المهاجر في طريقه إلى البلد الذي يفر إليه. فالمشاركون في النشاط سيقاسون بعض مواقفه، مثلما أنهم سيكابدون بعض أوضاعه، الأمر الذي، وبحسب الجهة المنظمة، سيجعلهم على بينة وعلم بكونه فعلياً تعرض للشديدة، وبالتالي، لن يمضوا إلى رفضه، أو الإساءة إليه، إنما إلى تقبله، والإحسان إليه، وإبراره على العموم.

يستند النشاط إلى منطق بعينه، وهو أن مؤازرة المهاجر تتطلب محاكاته. فمن دون ذلك، لن يحل سوى النفور منه، في أقل تقدير. لكن، أن تكون مؤازرته، وقبلها فهم مسألته والإحساس بها، مشروطة بالمحاكاة، فهذا ما يشير إلى أن محققها لا قدرة له على الإنصراف من ذاته، بل أنه يبقى فيها، ويغلقها عليه، لدرجة أن ذلك يمنعه من تعقل شديدة المهاجر، أو تخيلها. وبقدر ما يرتبط هذا المنع بانغلاق الذات، فإنه يتصل بنفي المهاجر منها، حتى يغدو وقوفه بلحمه ودمه أمام صاحبها بمثابة حضور مجهول، ومبهم، وأحياناً مفزع. على هذا النحو، يذهب المشارك في المحاكاة، بذاته، وعلى متنها، إلى المهاجر الذي يصير مطلوباً منه أن يوسع تلك الذات، ناقلاً إليها خبرتها، فيتحول إلى حكاية. من هنا، المحاكاة هي انتقال المشارك إياه من نفي المهاجر، إلى جعله حكاية مُعدَّة لتأديته لها.

لكن، ما هي هذه الحكاية؟ إنها حكاية مؤلفة على منوال واحد، منوال تسليبها، استخلاص سلبيتها، وتأطيرها حتى تغدو بمثابة مغامرة مستعارة من ناحية أنها تضمن لمؤديها أن يختبرها، لكن من دون أن يعيشها، ما يجعله مطمئناً إلى أنه، مهما "اندمج" فيها، لن يكون موضوعها، لن يكون المهاجر. سيدخل الحكاية، يؤديها، يعيش المغامرة، أو التجربة، ثم يستأنف ما كانه قبلها، ويقرر إن كان سيتقبل المهاجر أم لا. وكلما كانت تلك الحكاية مُسَلَبة أكثر، سيؤازره. أما في حال العكس، فسيكتفي بتقبله، أو ربما بالشفقة عليه. لكن، في الحالتين، يبدو أن المهاجر لم يمر في تجربته ويصوغ حكايته التي يجب أن تكون مأساوية للغاية لكي تسعفه.. سوى من أجل مَن سيحاكونها.

في هذا السياق، ليس غريباً أن موقع "فانديه" السياحي قد أعلن عن نشاط "هرباً، في جِلد مهاجر" إلى جانب نشاطات سياحية أخرى. فمحاكاة المهاجر ليست سوى نشاط سياحي، بحيث أن المشارك فيها يتجول في حكاية المهاجر، يزورها، يؤديها، يغيّر بها جوّه، تماماً كما يفعل أي سائح في مدينة ما، متنقلاً بين معالمها من دون أن يكون على صلة بها غير صلة انتفاعه منها مقابل بدل مالي. فليس غريباً أيضاً أن النشاط إياه مُسَعَّر بـ10 يورو. فهذه الـ10 يورو هي ثمن حكاية المهاجر، ثمن "العيش في جِلده"، ثمن الانتفاع من الحكاية والجِلد، قبل أن تكون ثمن الفطور ووجبتها الساخنة بعد الجولة!

لا شك أن النشاط، بمحتواه وإعلانه، أثار اعتراضاً فرنسياً، ما دفع الصليب الأحمر إلى تبريره بكونه من تنظيم شبيبته الذين لا يتسمون بمهارة التواصل، لكنهم أرادوا أن يوصلوا رسالتهم إلى أوسع جمهور ممكن. بالتالي، اقتصر حديث الصليب الأحمر على كلام عن خلل في التواصل، أي الخلل في الملصق الإعلاني للنشاط، وليس في النشاط بكليته، مشيراً إلى أنه يُعقد في فرنسا للمرة الخامسة، وهذا بعدما أطلقه الصليب الأحمر الهولندي والنروجي في العام 2010. وبالتوازي مع تبرير الصليب الأحمر، سحب موقع "فانديه" السياحي الإعلان عن صفحته أيضاً. بالتالي، بقي النشاط على وقته في نهاية الشهر المقبل، لكن بلا إعلانه، كما لو أن ملصقه هو مشكلته الوحيدة، وكما لو أن سحبه من موقع سياحي يلغي "سياحيته" البائسة. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها