- قصة "مفقود في الترجمة" أعتقد أنها مفتاح الكتاب كله. طبعاً يعطى العنوان وظهر الغلاف ملمحاً ما، لكن لعبة أخرى تتضح ملامحها في هذا الفصل أو هذه القصة، غير لعبة "المدخل والمخرج". هي أيضاً خارج السياق العام للحكايات، فهل كانت هي مقدمة الكتاب؟ الحقيقة اعتقد أن هناك نوعاً من التحدي في تأجيل هذه القصة، كأنك تختبر صبر القارئ، أو ربما تختبر قدرتك على الاحتفاظ به إلى أن يصل إلى جوهر الحكاية أو "حكاية الحكايات" إن صح القول، حتى لو لم يفهم اللعبة من البداية.. هل هذا صحيح؟
* مبدئيًا "مفقود في الترجمة" قصة مكتملة بذاتها وليست فصلاً في كتاب قد يصبح غامضًا إذا ما قُرئ منفردًا. أوشكت أن أضع ترتيبًا آخر للقصص يكون موجودًا في فهرس المحتويات، مع الإبقاء على أرقام الصفحات كما هي، لكن بترتيب مختلف للقصص تكون فيه قصة "مفقود في الترجمة" هي الأولى بالفعل ثم تأتي بقية القصص بعدها مثل ثنائيات مرتبطة (مدخل ومخرج – أمثولة العميان الثلاثة وابتسامة رجل القمامة – وهكذا) لكن دار النشر لم توافق لأن القارئ العابر قد يعتبر هذا خطأ من الدار فيفقد ثقته في الكتاب. من ناحية أخرى، "مفقود في الترجمة" ليست مفتاحًا، بقدر ما هي حكاية صانع هذه الحكايات، بطريقة ما، لكن مموهة قليلًا. ولم أشأ الأخذ بنصيحة بعض الأصدقاء فأضعها في الصدارة، بل آثرت أن تكون في قلب متاهة الحكايات كأنه (صاحبنا المترجِم صانع الحكايات بالافتراض) لم يزل ضائعًا وسطها. ثمَّة لعبة، صحيح، لكن لا يُشترَط أن يفهمها القارئ من البداية، أو أن يفهمها على الإطلاق إن هو اكتفى بقراءة كل حكاية منفردة تمامًا، من دون الربط بينها. مرة أخرى أود التأكيد على أن هذه مجموعة من القصص المتنوعة، والروابط بينها في التناول أو العالَم، ليست متتالية أو كتاباً قصصياً، وتأنس إلى انتمائها لهذا النوع بالشكل المتعارف عليه تمامًا.
- في حكاياتك، تتحدى متعة الأساطير ولغتها أيضاً. في رأيي أنت نجحت في هذا إلى حد كبير. لكن هل شكل هذا بعض التخوف لديك؟
* الحقيقة لم يكن هناك تخوف بقدر ما كانت هناك متعة، لكنها متعة مختلفة عن متع الحكايات القديمة والخرافية وقصص الأطفال. متعة صانع الحكايات هنا، نابعة من جرأته على البراءة المقدَّسة لهذا العالَم، مِن اجتراحه لفعل التدنيس السري لأرض الطُهر والنقاء. من ناحية أخرى، هناك القصص التي تخلق عوالمها البديلة تمامًا، من غير أن تتقاطع مع تراث إنساني أو حكايات أطفال، وهذه بالذات وقعت في أرضٍ أخرى تتسم بالبكارة والطهر والنقاء، كأنها تحاول أن تستعيدَ من جديد ما فُقد في الترجمة، وما تلوث على أيدي التجَّار والساعين للربح بأي ثمن. لكنَّ هذه قصة أخرى، ولا أميل لتأويل قصصي بنفسي إلَّا في أضيق الحدود، وبيني وبين نفسي.
- صحيح هي حكايات، ومنها فعلاً ما كان في الأصل للأطفال، لكنها ليست سهلة. لا تبحث عن التسلية بل الفكرة العميقة وراء كل حكاية.. المجموعة بالتالي ليست للقارئ العادي الملول أو المتعجل. كيف ترى المسألة؟ وهل تغير رأيك في القارئ من كتابك الأول حتى الآن؟ هل تؤمن بأن هناك أعمالاً معينة لقارئ معين؟
* أرى أن بعض قصص الكتاب سهل بالفعل، وبعضها الآخر صعوبته تكمن في بنيته وتركيبه وليس في تلقيه، لكن المؤكد أنها ليست للتسلية ولا للغرابة المقصودة لذاتها، والتي قد لا تهتم بأن تقول شيئًا من وراء رُكام البلاغة وألعاب الفانتازيا. إذا كان القارئ ملولًا فربما سيبحث عن كتب أخرى أنسب له، وإن كان ذكيًا وصبورًا فلعلَّ بعض القصص يعجبه. لم يتغير رأيي في القارئ لأني لم يكن لدي رأي محدد بخصوصه منذ البداية. لما كنا أصغر سنًا، كنا نكتب في البداية بلا قراء، كنا نحن قراء بعضنا البعض، وقد منحنا هذا كثيرًا من الحرية والسعي للمغامرة، تغيرت الأمور كثيرًا على مدار العقدين الماضيين، لكني ما زلتُ أرى أن كل كتاب يصنع قارئه وهو يصنع نفسه.، فبينما يتخيل نفسه ويشكل نفسه على الورق، فهو في الوقت نفسه، يشكل قارئًا جديدًا تمامًا سيكون مهتمًا بقراءة ما يُكتَب، هذا القارئ شبح غامض لا تستبين ملامحه طالما ظلَّ الكتاب في طور التشكل، ويظهر القارئ فقط مع نشر الكتاب، يولدان معًا ويعيشان معًا. أمَّا أن يوضع في الاعتبار قارئ محدَّد قبل الكتابة، فقد يضع هذا قيودًا ثقيلة على ولادة العمل حُرًا ومستقلًا وبلا معوقات.
- في لعبة المدخل والمخرج، يبدو الكتاب كأنه انتهى، لكن بـ"احكوا لي حكاية" يبدو وكأن الباب لم يغلق بالكامل، هل تفكر في العودة مجدداً إلى هذا العالم ولو بعد حين؟
* بعض القصص التي استبعدت تصلح لكتابة أخرى، مثل عالَم غرائبي (كوكب آخر)، فكرت فيه كثيرًا في الفترة الماضية، لكني أحب أن أترك الأبواب خلفي موارَبة، فربما أعود بعد سنوات وربما لا أعود أبدًا. لكن عبارة (احكوا لي حكاية) في السطر الأخير من القصة الأخيرة تحيل مهمة الحكي إلى المتلقي نفسه، بعدما تَعبَ صانع الحكايات. مِن عادات الحكائين التقليديين في بلاد إفريقية محددة (على ما أذكر يعني) أن يمسك الحكَّاء حجرًا في يده بينما يحكي، وعندما ينتهي يسلم الحجر لشخص آخر ليحكي هو حكاية، فكأنه يسلم الراية أو حجر الحكايات لآخر ثم آخر وهكذا، فكأنني أسلم الحجر لقارئي لأنني أحتاج لأن أقرأه هو، وأن يحكي لي هو حكايته.
- لأول مرة تعرف نفسك -أو يعرفك الناشر- كمدرب للكتابة. أولاً: هل ترى أن فكرة هذه الورش اتضحت الآن بالنسبة لك بما يكفى لتقييمها؟ ثانياً: هل أضافت لك هذه الجملة أعباء إضافية على مستوى الكتابة.. مسؤولية إضافية.. أو ربما خوفاً إضافياً، باعتبار أن عملك يجب أن يظهر الآن بشكل معين.. خالياً من العيوب مثلاً؟
* صحيح، ربما تكون هذه المرة الأولى على غلاف خلفي لكتاب لي. فكرة الورش كانت واضحة منذ البداية، لكني لا أستطيع تقييمها الآن، ربما لأني لم أنته منها تمامًا، وربما لأن خير من يقيّم مدرّب الكتابة هم المتدربون أنفسهم. لكنها إجمالًا تجربة تثري المدرب نفسه، ربما أكثر من المتدربين. هناك دائمًا مسؤولية، وخصوصًا في خلال عمل الورش، لكني لا أشعر بالخوف لمجرد أن يقال عني مدرب كتابة، ربما لأني قد أكون كاتبًا ضعيفًا ومدرباً كفؤاً، أو على العكس، أو حتى خائبًا في العملين معًا، بمعنى أن المهمتين لا تفترضان سلفًا أن أكون رائعًا في هذه وتلك على السواء. لا عمل خالياً من العيوب، ليس فقط لأن الكمال مطلب مستحيل وخرافي وربما ساذج أيضًا، لكن أيضًا لأن بعض العيوب تكون هي نفسها مكمن فرادة العمل وطزاجته. لكن إن كنا نتحدث عن مسائل في التقنية أو الأسلوب أو اللغة، فأنا شديد القسوة على نفسي في مراحل التحرير وإعادة الكتابة والصقل والتهذيب وخلافه، فكأني أظل (أكحت) السطح الخشبي للنصوص بكل أنواع ورق الصنفرة الموجود في عالم الكتابة حتى أكاد (أتزحلق) فوقها بينما أقرأها. هل ينجح هذا أم لا؟ لست متأكدًا تمامًا، لكني أقول لنفسي اعمل ما عليك والأرزاق على الله.
- ماذا تقرأ الآن؟ وماذا تكتب؟ ومتى تعود للرواية؟
* أقرأ الآن الصفحات الأخيرة من الرواية المتميزة والبديعة "جبل المجازات" للصديق الموهوب أحمد كامل، وأخشى ألَّا تقرأ جيدًا في الزحام الرهيب، لأنها ليست للتسلية الخفيفة بل عمل من العِيار الثقيل وفيها مجهود غير عادي. لا أكتب شيئًا جديدًا بقدر ما أفكر في إعادة تحرير وجمع مقالات نشرت في أماكن متفرقة على مدار السنوات القليلة الماضية وأشعر أنها جديرة بأن يضمها كتاب وبأن تبقى ولو قليلًا بما يتجاوز النشر العابر الورقي أو الإلكتروني وأتمنى أن أنتهي منها قرب نهاية هذا العام لأن بعضها قد يتطلب مزيدًا من الجهد التحريري. لا أعرف متى أعود إلى الرواية، ولا أشعر أنني مطالب بذلك على أي وجه، فلست موظفاً عند الرواية، أحب أن أتعامل مع نفسي الآن ككاتب والسلام، بعدما جربت حلاوة الكتابة غير الأدبية في موضوعات متنوعة، ومع هذا فلدي مشاريع وأفكار روايات وبعضها مكتوب فيه مادة خام لا بأس بها بالمرة، وتلك الأفكار تتربص بي وأتهرَّب منها كالمعتاد بالانغماس في نشاطات أخرى، كما قد يتهرب أعزب حر من مشاريع ارتباط محتمَلة، لكن مَن يدري؟ ربما العام المقبل، وبعد أن أفرغ من كتابة المقالات، ينجح أحد مشاريع الارتباط هذه في انتزاعي من كل شيء وتثبيتي في مكاني لكي أمنحه كل ما لديَّ من وقت وجهد وإخلاص.
(*) النصوص بين الأقواس من قصة "مفقود في الترجمة" بالمجموعة.
(**) محمد عبد النبي كاتب ومترجم ومدرّب كتابة مصري. اختيرت مجموعته السابقة "كما يذهب السيل بقرية نائمة" كأفضل مجموعة قصصية في معرض القاهرة للكتاب العام 2015، كما نالت أحدث رواياته "في غرفة العنكبوت"، المركز الأول في جائزة ساويرس الثقافية العام 2017، ووصلت إلى اللائحة القصيرة لجائزة بوكر العربية. ومن ترجماته، رواية "ظلال شجرة الرمان" لطارق علي-البريطاني من أصل باكستاني، ورواية "اختفاء" لهشام مطر-البريطاني من أصل ليبي، والرواية المصوَّرة "فلسطين" للكاتب والرسام جو ساكو، و"تمبكتو" لبول أوستر.
"كان يا ما كان" هي التجربة القصصية السابعة له، وصدرت عن "دار العين".
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها