الأحد 2019/04/14

آخر تحديث: 09:48 (بيروت)

سان بطرسبورغ: روح المدينة المختزنة في كتب

الأحد 2019/04/14
increase حجم الخط decrease
المدينة يرسمها ناسها بأنفاسهم على زجاج النوافذ الجليدية، يسكبها الكتّبة على الأوراق، تطبع في كتب تجد لها أماكن على الرفوف، تنتقي أيدي العابرين منها ما تنتقي.. ذلك في هذه التحفة المعمارية القائمة على شارع نيفسكي الرئيس في عاصمة الشمال الروسية سان بطرسبورغ - "بيت الكتاب"، حيث قد يضيع يومك وأنت تتصفّح عشرات آلاف العناوين الكتب المعروضة على في خزائن المبنى المؤلف من ست طبقات. وقد يسرقك فنّ العمارة من عشق الكتب، في تحفة أنشئت بين العامين 1902 و1904، على يدي المهندس الفنان بافل سيوزر (1844-1919) على تقاطع نيفسكي مع قناة يكاترينا، لتضمّ الفرع الروسي من فروع شركة "زينغر" للصناعات العملية والحربية (معروفة باسم "سِنجر" في بلادنا)، ولم تغد بيتًا للكتاب إلا في العام 1938، عشيّة الحرب التي ستحيل المدينة خرابًا.


رسمت الكتب سان بطرسبورغ، بفترتها القيصرية، ثم عندما باتت بتروغراد (1914-1924)، ثم لينينغراد (1924-1991) والحصار الرهيب، ثم لما عادت إلى اسمها الأصلي، بالرواية التي تركها كبار أدباء العصرين الأدبيين الذهبي والفضي، بالعلوم والفنون والحكايات الشعبية، بالسرد التاريخي والمعالم السياحية، بأبنائها وبناتها البارزين وبالأماكن الدينية والثقافية. اختزنت هذه الكتب روح المدينة وآمال ناسها وعذاباتهم.


العبور إلى المدينة

لا يمكن الدخول إلى سان بطرسبورغ إلا من بوابه الحصار النازي للمدينة أثناء الحرب العالمية الثانية، والذي استمر 872 يومًا، والذي قضى فيه أكثر من مليون شخص، حصد معظمهم الجوع. لا يوجد بين أبناء المدينة من لم يفقد أحدًا في ذلك الحصار، وقد حفر عميقًا في الذاكرة الجماعية وعزّزت ذكراه روسيا الحديثة. ويعتبر "كتاب الحصار" لدانييل غرانين (1919-2017) وأليس أداموفيتش (1927-1994) أيقونة هذه الذكرى، ذلك أن الكتب التي عالجت الحصار كثيرة إلا أن عمل هذين الكاتبين أكثر رسوخًا لكونه يزخر بحب صادق للناس، ويقف مسائل أخلاقية وإيديولوجية، كل فقرة أو عبارة منها تعتبر ترنيمة للإنسان، لأحلامه وآماله ورغباته في جعل العالم مكانًا أفضل. وقد فتحت روايات غرانين إلى جانب زميله البيلوروسي أداموفيتش أبواب الإبداع لأجيال عديدة، وتحولت إلى أفلام سينمائيّة، والكثير من عباراتهما باتت اقتباسات في الأعمال الأدبية، وأسهما في بناء جوانب من الضابطة الأخلاقية الجماعية. والكتاب يتضمن، إلى جانب قصّة الحصار والبطولة والتضحية، فصلا موثقا بعنوان "قضيّة لينينغراد" الذي يحكي عن مذبحة ما بعد الحرب بكل تفاصيلها المروعة. وفي هذا السياق يلتحق الصحافي والمؤرخ دميتري يوريفيتش شريخ (ولد سنة 1969) بركب من سبقه، كي يميط اللثام عمّا خفي من سيرة المدينة في كتابه "تاريخ بطرسبورغ بالمقلوب: ملاحظات حول السجلات المدينية"، داحضًا بالأدلة الكثير مما رسخ في أذهان الناس نتيجة الدعاية السوفياتية الموجهة.


بعد رأب جزء من الصدع الذي أحدثه الحصار في الذاكرة، وبناء جسر للعبور نحو المدينة نقف عند كتاب "مذكرات بطرسبورغي قديم"، لليف أوسبنسكي، المولود مطلع القرن العشرين، والذي لديه الكثير ليخبرنا به عن مراحل تشكل معالم المدينة معتمدًا على تجاربه الشخصية وقصص الأصدقاء والمعارف، فتغدو المعالم مألوفة للقارئ بل حميمة، وكأن أوسبينسكي أخده من يده وعرّفه على خفاياها. تلك الخفايا الكامنة في تاريخ قديم، يقودنا إلى عصر ما قبل الثورة البلشفية، إلى كتاب ميخائيل إيفانوفيتش بيليايف "قصص من الحياة السابقة للعاصمة"، الذي يحكي عن أخلاق المجتمع وعاداته، عن الثقافة والمصائر الفردية، عن الجمال والناس الذين تتشابك حياتهم مع تطور المدينة. لا يلتزم بأي خط زمني، فهو يحدثنا عن الأفراد بقدر كبير من الفكاهة مستخدمًا فن الأقصوصة الاجتماعية، التي يراها أكثر صدقًا من التاريخ الأكاديمي.


معالم الجمال    

تتناثر القطع الفنية في كل زاوية من زوايا المتحف الضخم الذي يحمل اسم مدينة، يصحبنا إليها سيرغي نوسوف على صفحات جزئين من كتابه "الحياة السرية لتماثيل سان بطرسبورغ"، يعرفنا إلى رموز المدينة وما لم يحك عنها بأسلوب مشوّق، من "فتاة السكك الحديدية" في حديقة النصر، إلى نصب دميتري مندلييف ونصب القائد كوفاليف في شارع فوزنيسكي، ونحو تمثال "الفتاة المكفوفة" قرب نوفاتشيركاسك، إلى نصب "أبراج العالم" غير الموجود فعليا. وهو في رحلته لا يبحث عن الآثار لاستكشاف غوامضها بل ليتلمس أهميتها في حياة المدينة، وينظر إليها عبر عيون الناس في الشارع. ولعل هذا النوع من الكتب، الذي يحكي عن علاقة المارة بجمال العمارة والمنحوتات، هو ما يرتقي بنا إلى ملامسة نواحي الجمال في رائعة ابن كييف نيكولاي بافلوفيتش أنتسيفيروف (1889-1958)، والتي تحمل عنوان "روح بطرسبورغ" (1924)، والتي نظمها بين العامين 1919 و1922، إبّان الحرب الأهلية الروسية والخراب الكبير. يقول أنتسيفيروف: "من يزر مدينة سان بطرسبورغ في هذه الأعوام الفظيعة القاتمة يرى كيف تتبدد وتحتضر. وكأن رحم العاصمة نضب في لحظة، وعندما انبلج فجر جديد لم يقع ضوؤه سوى على شواهد قصور وأشباح، حتّى أنّ ذهب البندقية اللامع وروما الأبدية سيشحبان في حضرة احتضار بطرسبورغ العظيم". أتت ملحمته الشعرية الفريدة من نوعها عن المدينة وناسها، لتصوّب البوصلة، لتتغنى بشعراء المدينة وكتّابها على مدى قرنين من الزمن، كسيموفونية لحاضرة مهيبة عبر وجوه مبدعيها وآثارهم. في "روح بطرسبورغ" ينسج الشاعر من مصائر أبطاله الأدبيين صورة للروح الجماعية للمدينة ككائن متمسّك بحبّ الحياة.

 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها