الإثنين 2019/04/01

آخر تحديث: 15:43 (بيروت)

واصف يلبس سماء التراب

الإثنين 2019/04/01
واصف يلبس سماء التراب
كان ناشطا حزبيا وثقافيا
increase حجم الخط decrease
ترفع قلبك حتى يلامس محيَّاك، ثم تنزل صوتك حتى مقام الهامسين. تكون وجه نبوءة الغد. تتقن رسم الضوء. تحمل اسمك بين سماءٍ وسماء، ثم يدركك يقين الصمت، فتكتبه بالريشة الأرق، ريشة عتم السكون، ومن ألف البرق إلى ياء الرعد، أنت أنت، صوت البرية الجذلى وتمادي انسياب الريحان.

أكتب لك، من عمر كان لنا أو من تعريف نداء. عرفتك "واصف"، وكنت أنا مثلك اسماً ومنبتّاً من قاموس النكرات، جئت لتحفر بالكفين مجرى للحلم الذي قيل لنا أنه باب للأحزان، ولما عزَّ الجهد يا رفيقي لم تبخل بالذات. كم ذاتنا كنّا؟ لا أذكر عدداً، إذ متى كنّا يا واصف أعداداً؟ لو كان الأمر جمع ضمائر للمتكلم والمخاطب والغائب، لتركنا كل قواعدنا، فبعض النحو من غير قراءتنا، وبعض الصرف من غير بيان وتبيُّن الآتين إلى كلمات الإيجاز. كانت كلمتك يا "خالد": انهض. خالد، هكذا دار الزمن بنا دورته لنعيد تذكُّر ما كان لنا من أسماء. هل أحببنا أسماء الأهل يا رفيقي؟ هل كانت أسماؤنا السريّة بعض الرفض "لاثام" الأبوية؟ أظن الأمر على وجه مما أردته وأردناه، ولعلّي أوقن من صوتك، أن ولادتنا كانت يوم تركنا على عتبات بيوتنا تهجئة الألقاب وتعريف الأسماء.

وما كان الزمن يا واصف ابناً باراً، وما كنّا ننسب إليه القمح عندما كانت السهول وعود حصاد وآمال قطاف، لكننا نذكر أننا ضربنا لردة الزمن وعقوقه موعداً. وماذا كان، رفعت يدك ورفعنا الأيدي إلى ما فوق الهامات، وكل منّا رفع الرأس معك، وبصوت الجمع المفرد، وبصوت أنا الأنوات، تضوّع في الوجد العهد الواحد: أبداً نرفعها الأيدي، وأبداً نعليها الهامات.

وعلى مهلٍ، رددت ورددنا، نحن الجمع المفرد، نحن الذات وجمع الذوات، لا تسبح إراداتنا في ذات النهر مرتين، بل هي تسبح فيه مرات ومرات، ومعه تجري حتى البحر، ومعه تعيد الخْلقَ، خلق القطرة والدمعة والعشب ومعنى الماء.

لم يكن البحر "مدينة ملح"، وما كان الصيد السهل فضاء قواربنا، ولم يكن الأفق شمس غروب، كان الموج رفيق الرحلة. يشبهنا الموج في دأب التكرار. يشبهنا الموج في الشوق إلى الرمل، ويقلدنا في فعل التأسيس على الأرض اليابسة الحرّى. لعل الموج يبادلنا يقيناً بيقين، أن ليس عطاءً ما ينهض فوق أكفَّ الماء – وليس جنى ما كان انغراساً في غير تراب. كم زرعت يا خالد؟! وكم رعيت يا واصف؟ كنت زارع ذاتك قبل مناداتك باقي الزرّاع. طلع العلماني الأخضر من حقلك، وطاردت الظلمة بالصوت، وطردت الظلامية والإقصاء بمدى القلم والفكرة والحركة، وبما تيسر من دأب القلب، وشهدنا لك. كانت بسمتك إشارة عرفان، أن شكراً احبتي وقد حللت بينكم حلول قبول، وكانت إشارة نكران، نكران للذات، ذاتك التي لم تطلب يوماً إلا "يعطيك العافية"... العافية التي خذلتك وخذلتنا... فأخذتك إلى غير وعود، وعود كانت مستأخرة في الظن، ومقصية من ميدان الجدّ، ومنسية في أروقة الأمل المتقد النيرة والأفكار.

وماذا يا خالد بعد الآن؟ لن ننتظر كتابتك غداً. لن نحتقل سويّاً بكتابك. لن يأتي صوتك عبر الهاتف يدعونا إلى شرب الشاي. لكن يا واصف، سيظل نداؤك مسموعاً بالإلحاح على الاستمرار في القبض على جمر المبدأ. هكذا دعوتُنا بالدأب على إنتاج يسار آخر. هكذا تعاهدنا، ونعاهدك اليوم، أننا أبناء الحرية ويسار النور سنبقى، وسنبقى حيث ولدنا نحمل آمال الفقراء، وستكون معنا، أنت مع كل أحبتنا الذين جعلوا الأرض إسماً غير اسم الأرض، رفاقنا الذين ارتفعوا أسماء فوق سماء، وأضافوا إلى بلاغة الطر فوح اسم التراب.


(*) خالد غزال من مواليد قب الياس – محافظة البقاع في العام 1945. درس في مدرستها الرسمية وعمل في التعليم ، وأكمل دراسته في الجامعة اللبنانية وتخرج منها في العام 1969 حاملاً إجازة في العلوم السياسية والاقتصادية. كتب عشرات المقالات في صحف: النهار، الحياة، السفير، الوسط وأوان ( الكويت ) وفي موقع "الأوان"، إضافة إلى ما نشره في بيروت المساء من مقالات منذ عودتها إلى الصدور الشهري.  

من مؤلفاته : 
- المجتمعات العربية وإعاقات الحداثة، دار الطليعة 2008 . 
- وجهاً لوجه مع الفكر الأصولي، دار الطليعة 2009 . 
- البؤس النهضوي: مسائل ثقافية من زمن الهزيمة دار النهضة 2013 
- الانفجار السكاني في العالم العربي، دار النهضة، 2013 . 
- من الدين إلى الطائفية: في ضرورة الدولة المدنية، دار الساقي، 2015....
- الإسلام والأسلمة: هوامش لنقد العقل والتاريخ، دار العودة 2015.
- الأزمنة الدينية: النص سيف السلطة، دار بيسان 2017.
- الإصلاح الديني في الإسلام: قضايا في الإصلاح الديني، دار بيسان 2018.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها