الخميس 2019/03/28

آخر تحديث: 12:37 (بيروت)

صباح فخري الذي لا ينسى وشاح الأسد

الخميس 2019/03/28
صباح فخري الذي لا ينسى وشاح الأسد
صباح فخري(غيتي)
increase حجم الخط decrease
ربما اعتاد القارئ أو المراقب، بعض الكتب الفنية الفخمة، ورقياً وإخراجياً وتغليفاً، الممولة من جهات أو شخصيات داعمة، أن تكون مرفقة بنص مخيّب، فيه فجوات في الكثير من جوانبه، ويغلب عليه التقريظ وثقافة العلاقات العامة، وأشبه بخطاب في حفلة تكريمية... وهذا ما يبدو جلياً في كتاب "صباح فخري/ سيرة وتراث" لشذا نصار (هاشيت أنطوان- مراجع). فالكاتبة، وإن غطت جوانب في سيرة صباح فخري وطفولته وبدايات نشأته، بين حارات حلب ونسائها، وصعوده "العصامي" وعروبته وحبّه العذري وزيجاته التقليدية (مرة بطليقة شقيقه المريض ومرة بفتاة مراهقة)، وأصول فنه وقدوده وموشحاته وجولاته العربية والعالمية ونجاحاته، لكن المؤلفة تركز في مساحات واسعة من كتابها، على صور الفنان مع الرؤساء والسلاطين وأزلام السلاطين، كأن ذلك في حسبانها من "أمجاد" صباح فخري في مسيرته. لا شك في أن الكثير من الفنانين والفنانات، يلتقون السلاطين والرؤساء والحكام، وهذا أمر معهود في بعض البلدان العربية وشبه نافر في الأوساط الغربية، لكن في تجربة صباح فخري الذي "رفع علم التراث الأصيل منتصراً"، و"حجز لنفسه مكانةً بين الخالدين" كما تقول المؤلفة، يبدو بلاط السلطان "حلماً"، وتصل الأمور الى أن يمارس الفنان وضاعة لغاية الوصول لسلطانه والتبجح له ولنياشينه وأوسمته.

والمؤلفة التي تسرد جوانب ضئيلة من مدينة حلب وتراثها وعمرها ومجتمعها، وتورد مقاطع قليلة عن شخصياتها الموسيقية والفنية، تأتي إلى جانب سيرة صباح فخري، وهي تفيض في التقريظ منذ البداية، وقبل أن يبدأ، وقبل أن يتكلم، تذكر أن أحد أقرباء الفنان كان يوقظه عندما كان طفلاً رضيعاً، "يقرصه" لأنه كان يحب سماع صوته حتى وهو يبكي، وتسأل "أليس غريباً أن يتميز هذا الرضيع بصوت يذكره الجميع ويعجبون به!؟ وتربى صباح فخري، أو صباح الدين أبو قوس، مع والده الذي كان يصطحبه الى مسجد الاطروش ومساجد اخرى، حيث استمع الى جهابذة التلاوة والتجويد والإنشاد، حتى أن الشيخ أحمد المبيض لاحظه وهو يتردّد على زاوية الباذنجكية، في باب النيرب، واستمع الى صوته، ولم يمنعه ذلك من أن يصطحبه الى حلقات النقشبندية، مع شيء من الترغيب بالمال. برز صباح أبو قوس في مدرسة الحمدانية، وتفوق في اللغة العربية والتربية الدينية بسبب ختمه القرآن. ومن بين الشخصيات التي كانت في حلب، عازف الكمان سامي الشوّا، التقى صباح الدين الطفل، وانتبه لصوته "استنفر قواه، وذكاءه وخبرته في العمل الفني والاجتماعي، لصقل موهبة هذه الخامة"، وعندما وقع اختيار سامي الشوّا عليه (أي صباح الدين أبو قوس)، بدأ بتغيير اسمه إلى محمد صباح، وهو الاسم الذي عرف به في الحفلات التي دعاه إليها الشوا، ليكون اسم الشهرة الفني له... وفي العام 1946 دخل محمد صباح القصر تتنازعه مشاعر الرهبة والفرح معاً، لم يصدق وهو يرى نفسه، وجهاً لوجه أمام فخامة رئيس الجمهورية (شكري القوتلي)، وكبار شخصيات البلاد ليغني له"، و"أمر الرئيس مرافقه ليمنح الفتى مئة ليرة سورية". وعلى زعم المؤلفة، "رف قلب الصغير فرحاً، وشهق بزقزقة مكبوتة"، وتضيف: "أما لقاء رئيس الجمهورية، فكان محطة مصيرية قفزت بمحمد صباح خارج حلب القديمة، والجديدة معاً، الى العاصمة دمشق".

وكأننا امام خطاب جهوري، وحدث أسطوري وكوني. تقول الكاتبة، إن صباح "اجتاز الحلم وهو يدخل القصر"، وتزيد من التوكيد: "نعم، إنه مدعوّ الى عشاء في القصر الجمهوري مع رئيس البلاد والوزراء وشخصيات دمشق المعروفة"، و"دخل في جميل هندامه، وبهاء طلعته، وقد أضافت الغبطة في خديّه تورداً". وأحسب أن مطرب القدود والموشحات، ربيب حب البلاط من البداية، بدأ في المساجد حلقات الذكر وصار شغفه القصور والسياسيين. فعدا عن ان سامي الشوّا اختار له لقب محمد صباح، ففي إحدى الحفلات الإذاعية المباشرة (1947) التي كان يقدمها المذيع صباح قباني (شقيق الشاعر نزار قباني) قال معلناً عن الطرف المعروف باسم محمد صباح: "أراد النائب الكريم فخري بك البارودي (نائب من دمشق) أن يتبنى المطرب محمد صباح ويعطيه لقبه، لذلك نقدم لكن الآن المطرب صباح فخري". وتمعن المؤلفة في تقريظ ثقافة السياسي و"أُعطيته" الضحلة، فتقول أنها "كانت مفاجأة رائعة، وشعور بالفخر والاعتزاز اعترى الفتى الصاعد. إنه لشرف كبير أن يحصل على لقب رجل دولة ومجتمع بهذا الوزن والانتشار. وهذه من أهم المحطات التي تركت في مسيرته بصمة أبدية، اذ نال يومها لقبه الفني الذي طار به على جناح الشهرة...".

وفي معهد الموسيقى الشرقية الذي أسسه فخري البارودي، تتلمذ صباح فخري على يد عمر البطش وتعلم الإيقاعات الصعبة والموشحات والقدود، ورقص السماح، وأرشده البطش إلى أسرار التلحين الأصيل. وفي العام 1947، كانت لصباح، وهو في الرابعة عشرة من عمره، أولى تجاربه في التلحين، وهي أنشودة دينية تقول "يا رايحين لبيت الله". وبعد فترة تعثُّر في الإذاعة، غادر صباح فخري دمشق إلى حلب، وعاد إلى اسمه صباح الدين أبو قوس، ودخل الكلية الاسلامية، وعمل جابياً لنقابة أصحاب معامل النسيج. ثم جاءت الفرصة ليعمل في سلك التدريس "وكيل معلم" في مدرسة الأنصاري، ثم في مدارس الأرياف حيث عاش الحب العذري من جديد، وسرعان ما التحق بالجندية أو خدمة العلم و"ما كان الالتحاق بخدمة العلم يشكل رهبة في نفسه صباح، ولا وجلاً، فقد اعتاد خشونة العيش"(ص 104). وتغوص المؤلفة في الأفكار الرومانسية عن خدمة العلم "تسأل الأم ابنها وهي تصب الشاي: أراك مهموماً يا ولدي... هل هي الجندية يا صباح؟

- سلمت يداك رائحة الشاي من يدك مميزة.. لا أرى ألذ منها...

تعيد السؤال الذي تجاهله: أهي العسكرية التي انت منزعج لأجلها؟

- أبدا يا حجّة، وهل يخيفني واجب وطني؟

-إذن

الجندية لكل شاب في سني واجب مقدس...".

بعد الجندية، عاد صباح الى الغناء، سواء في الحفلات أو البيوت. وفي 24 آذار1958، حطت طائرة خاصة على متنها الرئيس جمال عبد الناصر، برفقة الرئيس شكري القوتلي، واحتشدت الجماهير، أما اللقاء الثاني لحلب مع ناصر، فقد كان في احتفالات الوحدة في شباط 1959، برفقة رئيس يوغوسلافيا تيتو، والأمير بدر- ولي عهد اليمن. وكانت الحشود الحلبية تحكي "حباً استثنائيا لزعيم استثنائي (تقصد المؤلفة عبد الناصر)"، ثم عكف الرئيس عبد الناصر والأمير بدر إلى الجامع الأموي الكبير ليؤديا صلاة الجمعة، كان التكريم الذي "أحب أهل حلب أن يقدموه للزائر الكبير، ان يؤذن للصلاة صباح فخري. وفي ذلك شرف كبير لمطرب حلب"(ص128). وفي "الزمن الجميل للجمهورية العربية المتحدة، أعلن عن افتتاح بث تلفزيوني في كل من القاهرة ودمشق، في آن واحد، يوم 23 تموز من العام 1960. وكان المدير العام وقتذاك الاستاذ صباح قباني.. الذي كلف السيد غالب طيفور الاتصال بصباح فخري ليشارك في افتتاح تلفزيون الجمهورية العربية المتحدة في دمشق".

وسرعان ما قدم مجموعة من الأغاني، وكان زواجه الأول وهو في الثلاثين من عمره، من السيدة علية الإدلبي، طليقة أخيه بعد مرضه. وبعد حرب 1967 استنفر صباح فخري داعياً الى الجهاد عبر المذياع، ثم أعد قصيدة وطنية من ألحان ابراهيم جودت، حضرت "بسرعة يستوجبها الظرف القاهر، وتقول: وطني ونذرت له العهدا / بدمي وبذلك له الجهدا"، وأيضاً قدم أغنية حماسية على إيقاع حرب رمضان أو تشرين...

بحسب المؤلفة التي تحتفل بصورها مع وزير الخارجية السوري وليد المعلم، "حظي صباح بلقاءات عديدة مع رئيس جمهورية البلاد حافظ الأسد..."، و"طلب صباح مقابلة مع الرئيس حافظ الأسد، في العام 1998 وكان له شرف اللقاء في جلسة استغرقت ساعة ونصف الساعة". وتضيف "وكانت له اذن صاغية ممن عرف عنه التميّز بحسن الاصغاء والاستماع"، وفي نهاية المقابلة "ربّت سيادة الرئيس حافظ الأسد على كتف صباح قائلاً: أنت سفير سورية الى العالم(ص 213)، ويروي مطرب القدود أنه عندما "استلم الدكتور بشار الأسد رئاسة الجمهوري، تمت التهنئة في المجلس النيابي، حيث قمنا، كأعضاء في المجلس، بمصافحته والمباركة له- كالبيعة- فرداً فرداً. ولما حان دوري، ارتجلت:

بيعة البشر والأمل.. لفتى العلم والعمل

سر بنا قائدنا للعلا... يا أملي للحادث الجلل"...

ويضيف المطرب "ثم طلبت لقاءه لأطلعه على انجازاتي في النقابة وفي مجلس الشعب، وفي المقابلة ذكرت له أن الرئيس حافظ الأسد كرّمني بأن قال إني سفير سوريا إلى العالم(...) وكنت قد كّرمت بوسام من الرئيس التونسي بورقيبة، ومن السلطان قابوس. ولن أشعر بعد وفاتي بتكريم يصلني الى مجلس العزاء من القصر الرئاسي، بل أريد تكريماً من فخامتكم باليد.. وفعلاً كنت أوّل فنان يقلده الرئيس السوري بشار الأسد مشكوراً وساماً ووشاحاً العام 2007.. ولم، ولن أنسى ذلك أبداً".

يعاهد المطرب نفسه ألا ينسى شيئاً استجداه من سلطانه، أو أظهر خضوعه لسلطانه قبل ان يطلب السلطان منه الخضوع. وهو هنا يذكرنا بمقولة كونديرا في "كتاب الضحك والنسيان" لكنه يقدمها معكوسة، يقول كونديرا "صراع الانسان ضد السلطة هو بالدرجة الاولى صراع الذاكرة ضد النسيان". أما صباح فخري الموالي للسلطة فهو يعاهد ثقافة الأبد عدم النسيان للأبد.

وتمتد صور صباح فخري مع الرؤساء، من المغرب الى لبنان والخليج. ومن غرابة التأليف والتوليف والتشذيب، أن شذا نصار تروى وتسرد وقائع في حياة صباح فخري حتى 2010، ثم تقفز الى 2017 للحديث عن تكريم لصباح فخري في محطة آل المر، وكأن الحرب السورية لم تقع على قول جان بودريار، وكأن الحرب لم تدمر حلب، وتقلبها رأساً على عقب...


(*) أما قدود صباح فخري وموشحاته وكلمات أغانيه، فنخصص لها مقالة ثانية.

(**) تنظم دار هاشيت انطوان، ندوة عن الكتاب في دار النمر في منطقة كليمنصور - بيروت، عند الخامسة والنصف عصر الخميس (اليوم)، يتحدث فيها، إضافة الى الكاتبة، كل من المؤرخ الموسيقي الياس سحاب ورفيق نصرالله وغدي الرحباني. وتتخلل الندوة شهادة من ابن الفنان أنس صباح فخري. ويتبع الندوة احتفال توقيع الكتاب.



increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها