الأحد 2019/03/24

آخر تحديث: 10:52 (بيروت)

أكاديمية ربيع مروة

الأحد 2019/03/24
increase حجم الخط decrease
ثمة لحظة ينفصل فيها عرض ربيع مروة، "رمال في العيون"، الذي قدمه في باريس (le bal)، عن نفسه، إذ يكون "مروتياً"، لكنه، فجأة، لا يعود كذلك. قبل هذه اللحظة، يدور العرض، وتماماً كأي عرض من عروض الفنان، على مقربة من كونه "ستاند أب كوميدي"، عصارته هو ذلك الهزء الفوسفوري، الذي ما إن يومض حتى ينطفئ، وغالباً ما تكون ذات مزاوله هي موضوعه، الذي يبديه على تنقله من السدى إلى السدى.
فكل موقف من مواقفه لا يحمل معنى مسبقاً، وحتى عندما يحصل على هذا المعنى، يكون مصاباً بالتلف سلفاً. وفي هذا، يظهر في بيانه، شبيهاً ببيان فادي رعيدي في أعماله التي يسخر خلالها من حاله كمواطن وممثل وزوج وعلى أي مقلب من مقالب فعاليته، خالصاً الى ضياعه.

علامات سدى "المروتي"، الذي يعادل ضياع الرعيدي، وعند الإقلاع عن تعدادها وقائعياً بحسب عرضها، وهو إقلاع مقصود من أجل جرها إلى اكتمالها، لا تتعلق سوى بعادات مروة وتقاليده: الذهاب من حادثة بسيطة إلى تناولها ثم توسيعها. وذلك بالتوازي مع جعل شخصها الأساس، الفنان بذاته، ظاهراً في جوانبها كافة. تداهمه، فيتعرض لها، محاولاً تقديمها على نظرته، أو ساعياً إلى شرحها، مزيلاً الحد بين التخيل وغيره فيها. الهزء، في هذه الجهة، يرافق رواية الحادثة، لكنه مع صياغة النظرة والشرح، يتجمد، وما إن يكشفا خلاءهما، يعود ويخفي هذا الخلاء، جاعلاً منه شكلا للهباء.

كل علامات السدى، أو عاداتها وتقاليدها، وحين تكون مقروءة، توصف باللا-أكاديمية. لكن، في عقبها، يعني في لحظة إتمام مسلكها الأول والأخير، الهزء، وبلوغه تبدده، يبدو أن كل سداها هو مجرد طلب لليقين باعتباره شعوراً مؤسساتياً محضاً. فالرعيدي، وما إن يصل بهزئه إلى نهايته، حتى يتكشف أن ضياعه كناية عن توخٍّ لرطانة الوطنية الرسمية، التي تجعله يوشك على رفع يده في تحية عسكرية. أما مروة، وفي السياق عينه، وبإنجازه لهزئه، يقصد صواباً أكاديمياً، يجعله يوشك على الاتسام بنبرة دراسية.

كما الرعيدي، كذلك مروة، ينقلب الضحك إلى جدية، لا تدل على تخطي الهزء، إنما وبالعكس، على العودة منه. لكن، لا يمكن لمروة أن يرجع من هزئه اللا-أكاديمي إلى صوابه الأكاديمي سوى لأن الأول يتضمن الثاني، تماماً كما أن ضياع الرعيدي يتضمن رطانته الوطنية. فالصواب هو أرض الهزء، والوطنية هي أرض الضياع.

ليست لا-أكاديمية مروة سوى مذهب من المؤسسة، الذي، وعلى إثره، يقر لها بكونها قِبلة المعرفة، وبكون كل قراءة من دون منطقها هي تأليف لنص من نتف السدى. السدى هو استدعاء ليقينها، نظرته استدعاء لمنظورها، شرحه استدعاء لمرجعها. إلا أن هذا لا يشير اليه عمل مروة نفسه فحسب، إنما الأكاديميا نفسها، التي صارت اللا-أكاديميا منفذها، سبيلها لتهوئة صوابها، قبل أن تعود اليه. فليس صدفة ان هذه المؤسسة، وكلما ارتطمت بجدارنها، تقرر الاستناد الى الفن، باعتباره مجالاً متفلتاً من انضباطها، لكي تخفف من وقع دوختها، إذ لا تقدم على ذلك سوى لأنها تدرك كونه يحملها فيه.

في نهاية "رمال في العيون"، يحس المشاهد أن العرض قديم، غابر، ولا يتعلق احساسه هذا بكون موضوعه (أي البروباغندا البصرية لداعش وللحرب عليها) ليس راهناً، لا سيما في ظل معركة الباغوز أو بعد إرهاب برينتون تارانت. ولا يتعلق هذا الإحساس أيضاً بكون كل الاستفهامات والملاحظات خلال العرض، ورغم ضرورتها ودقّتها(*)، لا تحمل طريقة طرحها سوى إلى شاشة سوداء. ليس هذا هو مرد ذلك الاحساس، بل سببه هو أن القراءة اللا-أكاديمية، التي يتشكل العرض فيها، ما عادت، ومنذ زمن، على وصفها الذي كانت عليه، بحيث أنها اليوم بمثابة فرض جامعي. لقد أرادت المؤسسة الهزء، وها قد صار هو التابو، الذي يستلزم تخطيه طلوع من الأكاديميا ولا-أكاديمتها، من صورتها و"غليتشها" على حد سواء.


(*) ربما الملاحظة الرئيسة للعرض هي التالية: صورة القصف الجوي للتحالف الدولي champ، وصورة البروباغندا الداعشية contre-champ، والعكس طبعاً.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها