الخميس 2019/03/21

آخر تحديث: 13:02 (بيروت)

قلب ريجيس دوبري على أوروبا.. وقلب أوروبا في أميركا

الخميس 2019/03/21
قلب ريجيس دوبري على أوروبا.. وقلب أوروبا في أميركا
دوبري: "تانتان يقاوم في المحلة.. أما ميكي ماوس فقد لفّ الكوكب"
increase حجم الخط decrease
في مقطع من المنشور الذي كتبه ريجيس دوبري بعنوان "أوروبا الشبح"، وصدر قبل أيام "غاليمار" ليكون الأول من سلسلة منشورات تماثله ستعمد الدار إلى إصدارها تباعاً، يقول الفيلسوف أن أوروبا هي هذا "اللا-شخص الذي يزهقنا من الخارج، لكن من دون أن يكون في دواخلنا". وبالتالي، ولكي تحاول هذه الدواخل الشعور به، تستدعيه على طريقة "المانترا"، كما لو أنها تردد "أوروبا، اوروبا، أوروبا". الا ان دوبري، وفي استكماله مقطعه وحواشيه، يشدد على أن موضوع هذه "المانترا" المتواصلة ميت منذ عقود، وما يعيشه سكانه المفترضين هو نوع من استعصاء دفنه. البريكست، والفريكست... آخر النواحي التي يجري فيها إنكار ذلك الموت، موت السردية الأوروبية.

يخبر دوبري حكاية هذا الموت. وأحياناً، لا تبدو حكايته متعلقة بأوروبا، بقدر ما تتعلق بالعالم. كما تبدو، وفي بعض جوانبها، متعلقة بفرنسا وحدها. غير أنه، وفي مطاف قَصّه، يتوقف عند بعض علامات الموت اياه، والتي يختارها من العيش اليومي: البوب كورن أخذ مكان "الشوكولا غلاسيه"، الهالوين اخذ مكان "التوسين"، "البلاك فرايدي" اخذ مكان أسبوع الحسومات، و"الكيورايتور" اخذ مكان مفوض المعارض، "تانتان" يقاوم في المحلة، أما "ميكي ماوس" فقد لفّ الكوكب. وعلى هذا، الغرب أخذ مكان أوروبا، فالذي يشعر بأنه غربي، لا حاجة له أن يكون اوروبياً، لا سيما ان قلبه عندها سيتجه صوب أميركا.

من الممكن التأكيد على ما يشير اليه دوبري، اي موت أوروبا، أو، ومن اجل الدقة، اضمحلال سرديتها. فها هو علم الاتحاد الأوروبي يرفرف فوق الساحات في باريس، لكن رفرفته بلا وقع، كأنه علم دبلوماسي، أو تكنوقراطي ربما. فسرعان ما يخفيه العلم الفرنسي، وإذا لم يخفه، يبدو العلم الأوروبي مرفوعاً على غير معنى. ثم، لعل الشعور الوحيد بـ"الأوْرَبة" تنتجه اعتماد لغات أوروبية عديدة في الصراف الآلي، أو في تصويتات المترو الإلكترونية عند بعض المحطات.

أما المواطنون الذين يأتون إلى فرنسا من بلدانهم الأوروبية، إسبانيا وإيطاليا وألمانيا وغيرها، فلا يظهر انهم يجتمعون مع الفرنسيين على أساس الاشتراك معهم في هوية أو صلة أوروبية، بل بالانطلاق من التعرف عليهم كشعب مختلف. طبعاً، الحديث عن تعرّف فيه نوع من المبالغة، لأنه، ومنذ مدة، ما عاد هذا التعرّف هو القصد الأساس من المجيء إلى هذه المدينة، إذ صار عويصاً وبالياً. كما جرت الاستعاضة عنه -إذا أردنا الحديث مثل دوبري- بعيش الـ"Paris experience" تماما كعيش الـ"ibiza experience". طبعاً، في التجربتين، شيء عظيم، لكنهما تبقيان نسختان غير منجزتين من مهرجان "تومورولاند".

لكن أوروبا، مثل فرنسا، لا تنظر سوى إلى أميركا، المتخيلة في جزء كبير منها، أو المختزلة في قسم واحد منها، مثل وادي السيليكون مثلاً. هذا، ما لا يتوقف دوبري عن قوله، معدداً بعض سماته التي تنقله إلى الكلام عن الماكرونية ومنطقها الشركاتي، لا سيما في تعاطيها مع الأَورَبة. في هذا السياق، يذهب دوبري إلى القول أن أوروبا، أو ما تبقى منها، لن تكون على ما يرام، فالنزعات الإنقسامية فيها تتفاقم، تماماً كالنزعات "الإكستية" (exit). ومحو الحدود يؤدي إلى جدران متكاثرة، والهرب إلى الأمام الفيديرالي يؤدي إلى العودة الاقطاعية، كما أن "المتقدم" لا يجد مناصاً من التحول إلى "الشعبوي" الذي يتعارك معه. كل هذا، يحيل إلى هيغل: "المصير، هو الحال كعدو".

نظرة متشائمة، أو لنقل مكتئبة، هي نظرة دوبري. وهذه النظرة فعلياً يحملها كثيرون. إلا أن الفيلسوف الألماني بيتر سلوتردايك، وفي معرض حديثه خلال صالون الكتاب في باريس، الذي استقبله الأحد الماضي ضمن فعالياته عن موضوع أوروبا، قال، وبطريقة فكاهية ليست غريبة عنه، أن أوروبا أمام خيارات ثلاثة: الاكتئاب، أو الميغالومانيا، أو الكفاف (médiocrité، محدودية، رداءة). وبحسبه، عليها ان تتمسك بميزتها عن غيرها، أي بهذا الكفاف.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها