الثلاثاء 2019/03/19

آخر تحديث: 13:16 (بيروت)

أشرف فيّاض... قصائد حرّة لشاعر سجين

الثلاثاء 2019/03/19
أشرف فيّاض... قصائد حرّة لشاعر سجين
increase حجم الخط decrease
بمناسبة اليوم العالمي للشعر(21 آذار الجاري)، نستذكر الشاعر الفلسطيني أشرَف فيّاض الذي حَكَمتْ عليهِ السعودية بالإعدام ثُمَّ خُفض الحكم بَعْدَ ضُغُوطا دوليّة إلى السّجْن ثمانية أعوام مع 800 جَلْدَة. و"جريمته" أن شرطة "الأمر بالمعروف والنّهي عن المُنْكَر" اتهمته بـ"التعدي على الذات الإلهية ونشر أفكار الإلحاد". 

وكتبت الناشطة اليمنية سماح الشغدري قبل مدة، أنه وبحسب معلومات مؤكدة: "يعاني أشرف فياض في سجنه اليوم وضعاً صحياً ونفسياً متدهوراً، وذلك بعد مضي حوالى أربع سنوات ونصف عليه في السجن، ومع استمرار تنفيذ حكم الجلد بشكل متقطع، الأمر الذي يعرضه للسخرية من قبل إدارة السجن وتلقي العديد من الكلمات والتلميحات الجارحة. الشاعر يمر اليوم، إضافةً إلى محنة السجن والجلد، بضغوط نفسية شديدة، فتوقه للحرية يترافق مع شعوره بالخذلان من منظمات المجتمع المدني الدولية والعربية، والتي اكتفت بإسقاط حكم الإعدام عنه ونسيت القضية. يحاول أشرف أن يشغل وقته داخل السجن بالكتابة، وخلق نافذة للحياة قد تواسيه أو تكون بديلاً عن العالم الخارجي الذي لم يعد يتواصل معه منذ أن سُجن، هو الذي لا يجد أجوبة عن سبب إهمال قضيته، لكنه يبقى محتفظاً بأمل إعادة فتح القضية ليطلق سراحه نهائياً. السجن لشاعر كفياض غير الكثير من تفكيره، وقد يحتاج الأمر وقتاً طويلاً ليستوعب كيف نجا من حبل المشنقة، وكيف أن حريته قيّدت بسبب كلمةٍ أخذت بتأويل، وكيف دفع كل هذه الأثمان رغم عدم وجود نص صريح يحاكمه، ورغم نفيه الخطي لما نُسب إليه ورفض استتابته".

الشاعر الذي ضج الرأي العام بشأنه، ثم نُسيت قضيته نسبياً، باستثناء بعض الأصوات الناشطة التي تطالب باطلاق سراحه، صدر له قبل مدة مجموعة شعرية بعنوان "سِيرَة مَرَضِيّة" عن دار ديار، يقدم الشاعر فيها عدداً من التجارب المغايرة التي تتعمق داخل النفس البشرية وتلامس أكثر مناطقها حساسية وقداسة، ومناقشة تفاصيل حياته اليومية وتأثيرات المتغيرات الحياتية الناتجة عن تجارب شخصية في معظمها أو أحداث عامة تؤثر بشكل مباشر على الحياة اليومية التي يعيشها الإنسان. 

من اجواء المجموعة:

"أين أنتِ الآن؟
طعم القهوة يقتله الملل ..
والمدينة المصابة بالحمى عاجزة عن استقبال الليل بشكل لائق!
أين أنتِ الآن؟
منذ شهور أبحث عن سبب وجيه لحلاقة ذقني..
وارتداء معطفي المفضل.. تحسباً لشعورك بالبرد أثناء سيرنا تحت المطر.
أين أنتِ الآن؟
أعلم أن الليل خذلني كالمعتاد ..
أعلم أن البرق لن يستجيب لطلبي بالبقاء لوقت أطول في السماء..
وأعلم أيضاً.. أن جدي الأول.. لم يكن ليعرف طعم التفاح..
قبل تذوُّق شفاه جدتي.. التي خرجت من بين أضلاعه بطريقة ما!" 

جلطة دماغية

أعيش أوقاتاً صعبة
والنوم يتصرف كمراهقة وقعت في الحب حديثاً
لن أتطرق لحالة قلبي
ولا إلى الاضطرابات النفسية التي تشبه فقاقيع ماء تجاوزت درجة الغليان
أنا جزء من الكون.. غضب عليه الكون
أنا جزء من الأرض شعرت تجاهه الأرض بالحرج الشديد
أنا بشري بائس
عجز البشر الآخرون عن التزام الحياد معه
الحياد وهم
مثل كل الفضائل التي يتحدث عنها البشر بشكل نظري بالغ الوقاحة
الحق تعريف ناقص مثل الإنسان تماماً
والحب يتنقل كذبابة بائسة
احتجزت داخل مكعب زجاجي
الحرية أمر نسبي جداً
فنحن نعيش في النهاية داخل سجن كروي الشكل
قضبانه من الأوزون
وعندما نتحرر منه يكون مصيرنا الموت المحتوم
أعجز عن الضحك
أعجز تماماً حتى عن الابتسام
أعجز في نفس الوقت حتى عن البكاء
أعجز عن التصرف كبشري ولا يحزنني ذلك على الإطلاق
لكنه يؤلمني كثيراً
أن يكون لديك جسد مغطى بشعر خفيف
وأن تمشي على قائمتين
أن تعتمد كلية على عقلك
وأن تنقاد وراء شهوتك لأقصى حد
أن تُحتجز حريتك
وأن يقرّر الآخرون قتلك
أن تفتقد البشر الأكثر قرباً منك
دون أن تسنح لك فرصة وداعهم
ما فائدة الوداع؟
غير أن تترك انطباعاً حزيناً
ما فائدة اللقاء؟
ما فائدة الحب؟
ما فائدة أن تكون حياً إلى هذا الحد
في حين يموت الآخرون حزناً عليك؟
رأيت أبي آخر مرة خلف زجاج سميك
ثم رحل دون رجعة
لنقل بسببي
لنقل أنه لم يحتمل فكرة أن أموت قبله
مات أبي وترك الموت يحاصرني
دون أن أخاف منه بالشكل الكافي
لماذا يرعبنا الموت لدرجة الموت؟!
رحل أبي بعد أن قضى زمناً طويلاً
على سطح هذا الكوكب
لم أودّعه بشكل لائق
لم أحزن عليه بشكل لائق
وعجزت عن البكاء
كعادتي التي تزداد قبحاً مع مرور الوقت
العسكر يحاصرني من كل اتجاه
ببزّاتهم ذات اللون الفقير
تحاصرني القوانين والأنظمة والتشريعات
تحاصرني السيادة
التي لا تستطيع الكائنات الحية التخلّص من غريزتها عالية التركيز
تحاصرني وحدتي
تخلقني وحدتي
يختفي الاكتئاب والتوتر والقلق ويقتلني الندم على انتمائي للبشر
عجزت عن توديع كل من أحببتهم ولو بشكل مؤقت
عجزت عن ترك انطباع طيب عن آخر لقاء
ثم استسلمت لبنادق الشوق المصوّبة نحوي
رفضت رفع يدي وعجزت عن التحرّك
ثم كبّلني الحزن ولم يفلح في إجباري على البكاء
الوعي ينهشني من الداخل
ويقضي على كل فرصي بالنجاة
الوعي يقتلني ببطء
والوقت تأخر كثيراً على الشفاء منه..

يضمّ الكتابُ الذي أهداه "إلى حرْقةِ فَمِ المَعِدَة التي لم تُفارقْنِي منذ الولادة!!"، ستة وعشرين نَصّاً في 136 صفحة...


***

وكتب الزميل أحمد ناجي في مدونته، رسالة إلى أشرف فيّاض، بعنوان "فالأمل للمسجون عذاب"...

عزيزي أشرف فياض،

أكتب إليك بلا أمل، لأنى أعرف إن الأمل للمسجون عذاب. صحيح إن غياب الأمل يوقع المرء في ضلالات الوحدة والاكتئاب، يبذر الغضب والنقمة على العالم، لكن هذا ما نحتاجه جميعاً ألا ننسى ولا نغفر، حتى وإن تظاهرنا بالخضوع لسلطان الغول الذي يفتح فكيه على اتساع المدى مبتلعاً كل أحلامنا ومغامراتنا.

منذ أكثر من عشر سنوات كنت أنت من طاردت السراب في صحراء السعودية محاولاً تحويل الفن المعاصر في السعودية من مغامرات فردية إلى حراك متحرر. بأعمالك ومقالاتك ونشاطك التنظيمي ساهمت في التعريف بمشهد فنى مغاير من هناك.

أنت المولود في السعودية عشت عمرك كله هناك بلا جنسية.
الفلسطيني بلا انتماء لتنظيم سياسي يدافع عنك.
بلا قبيلة تطالب بالإفراج عنك.

أنت المسجون الآن، بينما الفنانون الذين كنت تقدمهم من سنوات وتكتب عن أعمالهم وتنظم لهم المعارض، ينطلقون الآن في فضاء العالمية على بساط مؤسسة "مسك"، إحدى أذرع الغول الذي قبض على المشهد الفني المعاصر وحوله إلى وردة في جيب دشداشة الغول.

أكتب إليك بغضب، لكنى أمضغ غضبي في فمي بينما الشفاه تبتسم، لأن الغول الذي يسجنك في أحشائه، أذرعه في كل مكان، وإن أراد قادر، مهما ابتعدت، على معاقبة كل من لا يبتسم له أو يصفق لبلاهته.

في السجن أحياناً كان غضبي ينفجر، في الزملاء المساجين مرة، وفي المخبرين السجانين مرة، وأحياناً ما حبست نفسي في الحمام وأخذت أصفع وجهى غاضباً من نفسي على سوء تقديري وأخطائي التي قادتني إلى هذا المكان. لكن خارج السجن هنا الآن، لا يمكنني الغضب، بل أحمل الخوف كملاك على كتفي الأيسر، ابتسم للجميع سواء كانوا رفاقاً أو غيلان، وأعبّر لهم عن امتناني لأني خارج السجن.

بعد نوبات الغضب في الحمام، غالباً ما كنت استمني ثم استحم، وأخرج لأنعزل في فراشي لساعات طويلة غارقاً في كتاب ضخم. رويداً رويداً، تعلمت توجيه غضبي نحو الفعل الصحيح، لا صفع الوجه أو ضرب الرأس أو الاستمناء بيأس، بل بالقراءة ثم القراءة.

بالاستغراق في القراءة يمكنك الانعزال عن محيطك، أحياناً في بعض الكتب تزول حيطان السجن، لكن الأهم مهما كان مستوى الكتاب فهو يدفعك للتفكير، يشغل ذهنك عن مأساتك، والأفضل من ذلك حينما تنام فتأتيك أحلام ليس فيها السجن، بل يتداخل هذيان الذاكرة بما تقرأ، ويشيد المخ في الحلم عالماً من السراب والضباب الملون.

لم ننس يا أشرف، رغم ضعفنا وقلة حيلتنا بل وانحنائنا للغول ومحاولة تفادى سلطانه، لم ننس ولم نغفر.

السجن عزلة، مثلما يستهدف عزلك عن المجتمع ومعاقبتك بتدمير نفسيتك، يستهدفنا نحن كذلك بإجبارنا على نسيانك، بأن نتحول لسجانين. إن نعتاد غيابك. إن نعتاد سجن الشعراء والكتاب والفنانين. أن يكون الخوف خبزنا اليومي.

يحدث إن يعمى الغضب المرء عن رؤية العالم، شعرت أحياناً في ليالى السجن بأنني لن أخرج أبداً، بأنني حتى لو خرجت لن يغادرني السجن، بأني تسممت تماماً، وتلك الحشرات التي عشت بصحبتها دخلت تحت جلدي ولن يمكنني التخلص منها أبداً. لكن كل هذا زال، وكل الكوابيس التي تحاصرك في جدران السجن ستزول، سيمضى كل هذا يا أشرف، فوجّه غضبك في المسار الصحيح، لا تجلد ذاتك، ولا تترك الغول يمسخك.

بأخوة الكتابة والأدب، بأواصر الفن والأحلام ينمو اتصالنا، حتى لو تقطعت سبل التواصل، فأتمنى إن تصلك محبتنا وأن تمدك بالطاقة على الحلم.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها