السبت 2019/03/16

آخر تحديث: 11:52 (بيروت)

"لو كان لشارع بيل أن يتكلم": مَن يقبل مَن؟

السبت 2019/03/16
"لو كان لشارع بيل أن يتكلم": مَن يقبل مَن؟
كان بالدوين يمقت كلمة "الاندماج" التي كانت مفردة أساسية في قاموس الإصلاح القانوني الأميركي
increase حجم الخط decrease
في كتابه عن السينما، "الشيطان يجد عملاً"، يكتب جميس بالدوين أن المعالجات السينمائية للأعمال الأدبية "تمارس قدراً معتبراً من العنف على الكلمات المكتوبة". يعرف بالدوين، أحد أشهر كتّاب الولايات المتحدة السود، إن لم يكن أشهرهم على الإطلاق، الكثير عن العنف، بأشكاله المختلفة، وبالأخص المؤسسي منه. فنحن ندين بالكثير لكتاباته الأدبية وغير الأدبية لفهم بنى العنف العنصري والمعادي للمثلية في الولايات المتحدة، في عقدي الستينات والسبعينات. لم يعول بالدوين كثيراً على العنف في نضاله ضمن حركة الحقوق المدينة الأميركية. فأعماله التي كتبها من منفاه الاختياري في باريس، كانت تركز على الحب، بوصفه السبيل الوحيد لخلاص المجتمع الأميركي، المسكون بالكراهية. لكن بالنسبة إليه، كان العنف الذي يستلزمه الانخراط مع نص جمالي ونقله ليتجاوز شكلاً فنياً إلى آخر، جانباً أساسياً من العملية الإبداعية، بل وربما جوهرها. لم يكن بالدوين رومانسياً بالكامل ولا راديكالياً بالكامل أيضاً، فالحب الذي بشر به كان أطروحة سياسية، أكثر من كونه عاطفة خيرة. أما العنف الجمالي، فكما كان يراه محملاً بإمكانات خلاقة، كان يرى فيه مغامرة محفوفة بمخاطر التشويه والتدمير. 


كان لرواية "لو كان لشارع بيل أن يتكلم"، التي كتبها بالدوين العام 1974، أن تتعرض لواحدة من تلك المعالجات الخلاقة، في الفيلم الجديد للمخرج الأميركي الأسود، باري جينكينز، والفيلم يحمل العنوان نفسه. يعود جينكينز الذي فاز فيلمه "ضوء القمر" (2016) بجائزة الأوسكار لأفضل فيلم في دورة العام 2017، ليوظف لغته البصرية الفريدة، في رواية قصة الحب التي تربط تيش وفوني، في حي هارلم النيويوركي. تُروى الرواية كما الفيلم، على لسان تيش، الفتاة السوداء ذات الـ19 عاماً، في سردية غير خطية، تبدأ من زيارتها لحبيبها، فوني، في السجن. تقفز السردية في الزمن وتعود، على خطوط محاولة تيش وأسرتها لإثبات براءة حبيبها الأسود، من تهمة الاغتصاب الملفقة. كان ما يسعى بالدوين إلى طرحه في روايته هو أن قصص الحب البيضاء، التي نقرأ عنها أو نشاهدها في الأفلام، هي قصص حب فردية، علاقة بين شخصين، أما كل قصة حب سوداء فهي قطعاً حكاية لشخصين خاضعين لهيمنة عالم البيض، أي خليط من الدراما والاحتجاج. يخفف جينكينز في فيلمه من حدة الاحتجاج لصالح الرومانسية، فهو لا يشغله بالطبع ما كان يشغل بالدوين في السبعينات، ما يبحث عنه الفيلم هو الهوية لا الحقوق، الجمال لا العدل.


ينجح جينكينز في تطبيع صورة الأسود. فاللوحة البصرية الخلابة والحالمة، وموسيقى الوتريات الرومانسية في خلفياتها، والكادرات القريبة لوجوه أبطاله التي يحيطها بغلالات مطمئنة وحميمة من الدخان والظلام الخفيف، ترسم ألفة غير معتادة مع الوجه الأسود والجسد الأسود. فالأسود لا يكون صورة للتهديد أو المعاناة أو البطولة، كما اعتدنا في الطرح الهوليوودي، بل يضحي مرادفاً للجميل المغرق في الرومانسية، على خلفية أصوات الحبيبين الهامسة والمبحوحة. لا تشبه تلك الصورة كثيراً صورة هارلم السبعينات التي كتب عنها بالدوين، وتختلف كثيراً عن روايته. فالحي القذر والقبيح وشديد الفقر، والذي كانت فيه "الجرذان بحجم أرنب"، يبدو في الفيلم جنة صغيرة، وتبدو الشخصيات ومحيطها وملابسها ولغته الجسدية براقة وناصعة وكأنها تنتمي للطبقة الوسطى البيضاء، باستثناءات قليلة جداً. أما تيش التي لم تكن جميلة جداً، وبدرجة لون أدكن من حبيبها، في الراوية، فتظهر في الفيلم ببشرة فاتحة وملامح منمنمة، بحسب معايير الجمال البيضاء. ويبدو أن مخرج الفيلم كان واعياً لتعديه على النص الأصلي، وعدم إلتزامه بالواقعية، فغرضه كان بالإساس هو إعادة خلق صورة الأسود، أو إعادة موضعتها كجزء من العام والجميل، كي يضحى الأسود مقبولاً في عالم الأبيض، وتدمج صورته فيه.

ينجح الفيلم في كل هذا بلا شك، لكن معالجته تبدو كخيانة، أي أكثر من عنف تجاه الرواية. فبالدوين كان يمقت كلمة "الاندماج" التي كانت مفردة أساسية في قاموس الإصلاح القانوني في الولايات المتحدة في زمنه. فما كان يبحث عنه، لم يكن قبول السود في عالم البيض، واعتبارهم أنداداً. بل العكس، أي قبول السود للبيض، غفرانهم للظلم والكراهية، وقبولهم لهم في عالمهم الأسود ودمجهم فيه. وفي تلك المفارقة الفادحة بين الرواية والفيلم، لا يتبدى العنف فقط في المعالجات السينمائية، والتشويه الذي تحتمله عملية الخلق، بل وأيضاً التحولات التي طرأت على خطابات المظلومين، وأهداف نضالهم، بين السبعينات واليوم.  
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها