الجمعة 2019/03/01

آخر تحديث: 12:39 (بيروت)

"هل تغفر لي يوماً؟": فن الكذب

الجمعة 2019/03/01
"هل تغفر لي يوماً؟": فن الكذب
لا يمكن المبالغة في تقدير الخسارة الفادحة التي تلحق بالأدب جراء "الواقعية"
increase حجم الخط decrease
"لا يمكن المبالغة في تقدير الخسارة الفادحة التي تلحق بالأدب من هذا المثال الزائف (الواقعية) في زماننا. فالناس يتكلمون بطريقة مستهترة وهم يقولون فلان "كاذب بالفطرة"، كما يتكلمون عن "شاعر بالفطرة"، وهم مخطئون في الحالتين. الكذب والشعر هي فنون، كما ظن أفلاطون، وهما مرتبطان ويتطلبان دراسة شديدة الدقة والتفاني الأكثر نزاهة".

في نصه الشهير "اضمحلال الكذب"، يسخر أوسكار وايلد من مُثُل عصره الواقعية التي أفسدت الفنون، ومن الروائيين الذين يقضون أوقاتهم في المكتبة البريطانية وقاعات الأرشيف ليجمعوا المعلومات عن شخصيات أعمالهم. يتبرم وايلد من ضياع تلك الموهبة المذهلة لابتداع الأكاذيب، والتي تُقتل بتعليم صغار السن قيم التدقيق والحقيقة. وربما كان فيلم "هل تغفر لي يوماً؟" للمخرجة الأميركية مارييل هيلر، في ظاهره، واحداً من تلك الأعمال التي يمقتها وايلد. فالفيلم الذي رشح لجوائز أوسكار لأفضل ممثلة، وأفضل ممثل مساعد، وأفضل سيناريو مقتبس، يعتمد في سرديته على مذكرات الكاتبة الأميركية "لي إسرائيل"، أي على قصة واقعية. أما "لي" نفسها، التي قامت بدورها في الفيلم، ميليسا ماكارثي، فقد نالت شهرتها في السبعينات والثمانينات، ككاتبة سير شخصية للمشاهير، قضت معظم أوقاتها بين المكتبات وأرشيفات المجموعات الخاصة بغية التدقيق في المخاطبات الشخصية والمذكرات والوثائق المتعلقة بشخصيات كتبها.


لكن الفيلم، و"لي"، على غير ما يبدو للوهلة، ليسا تجسيداً لقيم "ضد الفن" المعنية بالحقيقة والدقة، بل على العكس، هما مديح للكذب في أكثر صورة فنية، أي تجاوزه نطاق الكتابة إلى ساحة الحياة اليومية، ومنها إلى السقوط في يد مكتب التحقيقات الفيدرالية. فـ"لي" الخمسينية، التي تتراجع شعبية كتبها، بعد تغير في ذائقة صناعة النشر الأميركية، وتخلي وكيلتها الأدبية عنها، تجد نفسها في خضم أزمة مالية مستحكمة، بالتوازي مع استفحال مشكلتها مع إدمان الكحول ومزاجها المتقلب. تعقد الكاتبة التي تركها الجميع وحيدة، باستثناء قطتها، صداقة مع سكير آخر خفيف الدم، هو "جاك". وبسرعة، تأخذ الأحداث منحى مفاجئاً. بالصدفة، تجد "لي" نفسها تبيع رسائل مزيفة تدّعي نسبتها إلى مشاهير. لا تتربح هي ولا جاك، شريكها في جرائمها، الكثير من المال. فالأموال التي جمعتها من بيع 400 رسالة مزيفة جلبت ما يكفي لدفع إيجارها وعلاج قطتها، والأهم ما يثير ملكات الكذب لديها. فهي كانت في حاجة لدراسة شخصياتها أولاً، حتى تستطيع تقمصها، والكتابة بالنيابة عنها على آلة كاتبة اشترتها خصيصاً لكل واحدة منها. تقول "لي" في المحكمة بعد انكشاف أمرها، والقبض عليها، إن الرسائل هي "إنجازها الأهم" في مسارها المهني. فبفضلها توقفت عن الاختباء وراء الآخرين الذين كتبت سيرهم الذاتية، وفتحت لخيالها الأفق لاختلاق عوالم كاملة وعلاقات وشخصيات باعتها كوَهم لهواة جمع مقتنيات المشاهير. فما الفرق الجمالي بين التزوير الذي اقترفته "لي" وبين الأدب؟ سوى أن الأول مُجرَّم قانوناً؟

لا يتوقف الفيلم عند ذلك السؤال طويلاً، فإجابته بدت أكثر بداهة من أن يتعرض لها. ما يكشفه الفيلم بكل جدية، من دون أن يفقد خفته وحواراته وأحداثه المضحكة، هو منظومة متقلبة وقاسية لصناعة الفنون، مستعدة لسحق العاملين فيها، في أي لحظة. تعمل تلك الماكينة الضخمة في سياق نظام للقسوة يهيمن على كل تفاصيل إدارة المجتمع، فالعيادة البيطرية ترفض علاج القطة المسنة والمريضة، طالما لم تملك "لي" ما يكفي لدفع ديونها المتراكمة. هكذا يبدو أن شعرية خطابات "لي" المزيفة، لا تكمن في جمالياتها الأدبية فقط، بل في تحايلها على المنظومة القائمة، وكسر مصداقيتها، واستغلال تفاهتها القاسية لصالح بعض الرأفة. فتجارة مقتنيات المشاهير، والتي تخدمها شبكة تكتشفها الكاتبة البائسة، ومكونة من هواة الجمع والوكلاء والخبراء المثمنين والموثقين، تبدو عرضاً جانبياً واحداً لهوس الامتلاك والمضاربة على علامات العبقرية الفردية، ولا يجدر بالمرء الشعور بالذنب تجاه الاحتيال عليها.

تستعيد "لي" في الحقيقة نجوميتها، حين تنشر مذكراتها "الواقعية" عن كذبها، وعن رسائلها المزيفة، ليظل الكذب محور إنجازها الفني. أما "هل تغفر لي يوماً؟" فلم يفز بأي من جوائز الأوسكار، التي ذهبت في معظمها لأفلام مقتبسة عن قصص واقعية.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها