الأحد 2019/02/03

آخر تحديث: 10:02 (بيروت)

طريق ديك تشيني إلى البيت الأبيض... الرئيس الحقيقي لأميركا

الأحد 2019/02/03
طريق ديك تشيني إلى البيت الأبيض... الرئيس الحقيقي لأميركا
رجل سياسة نتاج نظام فاسد يمكن أن يدمر ويغير كل من تقع عينه عليه أخلاقيا وجسدياً
increase حجم الخط decrease
يُعتقَد أنّ ديك تشيني، هو أقوى نائب رئيس جمهورية مرّ على الولايات المتحدة الأميركية. اعتُبر الرجل "الرقم الصعب" في البيت الأبيض خلال إدارة جورج بوش الإبن. شخصية معقدة حادة، قليل الكلام، مصمم على تحقيق أهدافه، ولا يرحم. محارب دموي في سبيل الإمبريالية الأميركية، الرجل الذي تجرّأ على اعادة صياغة القانون واتخذ قرارات مصيرية دولياً ومحلياً.

"فايس"(*) للمخرج الأميركي آدم مكاي يروي خمسين عاماً من حياة ديك تشيني (كريستيان بيل بطريقة متقنة تمثيلا وشكلا، فحاز على جائرة أفضل ممثل في جوائز غولدن غلوب الأخيرة وترشح كأفضل ممثل لجوائز الأوسكار)، من عامل كهربائي مضطرب مثير للشغب ومدمن على الكحول في وايومنغ، إلى رئيس شركة نفطية ومروراً بالبيت الأبيض خلال ولاية الرؤساء ريتشارد نيكسون، رونالد ريغان وبيل كلينتون. كيف شق تشيني طريقه إلى المكتب البيضاوي ليصل إلى منصب نائب رئيس جورج بوش الإبن (سام روكويل) وليكون أحد اقوى رجال زمنه.

ديك تشيني لم يصبح عبثاً أحد أكثر الشخصيات المثيرة للجدل في التاريخ الأميركي الحديث. الراوي يقود الفيلم، يدلّنا على طريق السياسي المولود في نبراسكا، من حياته الخاصّة إلى منصبه الرفيع، نجح مكاي في المهمة الصعبة المتمثلة في سرد تطور الرجل بدءا من علاقته مع زوجته والعلاقة المضطربة مع ابنته وصولاً إلى أمراض القلب التي عانى منها طوال حياته. ممسكاً بيد زوجته لين (آمي ادامز) وبدعم السياسي المحنك دونالد رامسفيلد (ستيف كاريل) وخلال ولايته كنائب للرئيس، غيّر تشيني مفهوم السلطة والنفوذ بشكل جذري في الولايات المتحدة بموافقة ضمنية من الرئيس، هو سيطر بطريقة شبه كاملة على السلطة التنفيذية بعد أحداث الـ11 سبتمبر، اليوم الذي أُعيد فيه تشكيل البنية الجيوسياسية الأميركية. كيف بات هو، الرئيس الحقيقي لأميركا؟ هو عرّاب قانون مكافحة الإرهاب الذي سمح للوكالات الأمنية والفيدرالية بانتهاك خصوصية مواطني الولايات المتحدة، بقوننة استخدام التعذيب في التحقيق تحت عنوان مكافحة الإرهاب، كما خطط للحرب على العراق، ساهم بخلق وحش داعش، ومهّد الطريق لوصول دونالد ترامب إلى سدّة الرئاسة، بالإضافة إلى الكثير من الأحداث الأخرى التي حصلت منذ 20 عاماً حتى اليوم. المفارقة في مقاربة المخرج الأميركي أنّه لم يقدّم تشيني رغم كلّ ما سبق على أنّه وحشٌ بلا قلب أو شخصٌ عديم الضمير بل رجل سياسة نتاج نظام فاسد يمكن أن يدمر ويغير كل من تقع عينه عليه أخلاقيا وجسدياً. فرادة القصة الواعية تلعب دورها، فهي عن رجل تسلم سلطة دون أن يظهر، دون أن يكون اسمه على الشفاه، على الرغم من أن كل القرارات الاقتصادية والسياسة الخارجية والإدارية البيروقراطية مرت من مكتبه ومن تحت يديه.


يسافر "فايس" باستمرار من الماضي إلى الحاضر، يلمّح إلى المستقبل ثم يعود إلى الماضي. من خلال هذه القفزات الزمنية يأخذنا المخرج إلى اكتشاف الرجل خلف الكواليس وقراراته المهنية والشخصية بطريقة شكسبيرية وشبه سوريالية لشخصية فريدة. قصة تم سردها بمهارة وحكمة من قبل مكاي (الحائز أوسكار افضل سيناريو مقتبس العام 2015 لفيلم "ذ بيك شورت"). يقدم مكاي الفيلم بهجاء لاذعٍ لا يرحم، بطريقته المعتادة يضحكك وفي الوقت نفسه يخلق جواً من عدم الارتياح، فلا يسير الفيلم بطريقة سلسة، بل هناك كثيرٌ من الصعود والهبوط والانتهاء والبداية، هي عادة مكاي وطريقة إخراجه الموازية، هذه المرة لحياة تشيني بصعودها وهبوطها فصعودها الأقوى.

مكاي في "فايس" لا يضيع أية ثانية، هو يقدم على الفور تشيني باعتباره آلة أشبه بحاسوب بارد خال من الانفعالات والمشاعر، تبدأ قصة الفيلم يوم رأى العالم انهيار البرجين التوأمين في مشهد صادمٍ، لكن تشيني لم يحرك ساكنا، كان يدرس ما يجدر القيام به، وبطبيعة الحال ما يتوافق مع مصلحته الخاصة.

من الواضح أن مكاي قرر استخدام كل ما تعلمه في الخمسة عشر عاماً من الكوميديا والتلفزيون لصنع أفلام جادة جدا تستخدم الفكاهة من أجل تلطيف المواضيع العامة. كما الحال في "ذ بيغ شورت" الذي حاول فيه مكاي تفسير الأزمة الاقتصادية التي حصلت العام 2008. اختار المخرج الموارد نفسها التي يجيد التعاطي معها، من تجميع الحقائق لإظهار كيف أن التاريخ هو في الواقع مأساة، ولكن هذه المأساة عادة ما تكون نتيجة مخططات رجالات السلطة. في "ذ بيغ شورت" شرح الأزمة الاقتصادية على اعتبارها سقوطاً كان يمكن تجنّبه لولا غباء النظام، في "فايس" تعامل مع السيرة الذاتية بالطريقة والفكرة ذاتها، شرحٌ لشخص يريد أن يعلم. ما يفعله مكاي في السينما "التعليمية" أنه يقولب قصة حقيقية ويجعلها مفهومة وقابلة للهضم، هو الطابع العام لأفلام السير الذاتية التي تحول الشخص الحقيقي الى شخصية تناسب حبكة الفيلم الدرامية. المفارقة هنا، وخلافا لغيره، دأب مكاي على تشتيت انتباه المشاهد عن طريق النكات والفكاهة التي تكون من خارج القصة. هكذا استطاع المخرج أن يتميز عن غيره، وأن يقدم فيلم سيرة ذاتية يسير بمحاذاة الملل والفشل عادةً إلى تجربة مسلية وواضحة. خاصة أنه يكسر الأنماط ويتغلب على الجدار الرابع.

حاول المخرج أكثر مما ينبغي تغطية الجزء الاكبر من حياة تشيني. ولم يتفحص الأشياء بعمقٍ كافٍ، وقد يكون السبب أنّ ديك تشيني كان غامضا ولم يترك الكثير وراءه، وعرف متى يتكلم وبماذا ومتى يجلس في الظل ومتى يحرك الدمى.

"فايس" فيلم جيد الصنع، مكتوب بشكل متقن مليء بأداءات ممتازة خاصة من كريستيان بيل مع التحول الجسدي الذي عودنا عليه. قدم الفيلم حياة رجل سلطة استثنائي بموضوعية، ولكن مع إلقاء الأعباء وتحميل المسؤوليات خلال فترة حكم انطوت ولا تزال على كثير من النقاش، وجهات النظر والانتهاكات وتركت جراحاً لم تندمل حتى اليوم.

(*) تم ترشيح الفيلم لعدد كبير من جوائز الأوسكار منها افضل فيلم، أفضل مخرج، افضل ممثل، افضل ممثلة.
وبدأ عرضه في الصالات اللبنانية قبل أيام.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها