الخميس 2019/02/28

آخر تحديث: 17:19 (بيروت)

عودة الساحرات

الخميس 2019/02/28
عودة الساحرات
لوحة "النزهة" - غيرترود آبركرومبي (1943)
increase حجم الخط decrease
لعله ليس من قبيل الصدفة أن يحقق كتاب الباحثة الفرنسية السويسرية، مونا شوليه، "الساحرات.. قوة نسائية لم تقهر"(Zones,2018) مبيعات مبهرة في سوق الكتب الفرنسية هذا الشتاء، بمستوى 75 ألف نسخة حتى الآن، دافعاً صحيفة "لوموند" إلى الاحتفاء بالطبعة الأولى والكاتبة. ومن أجل فهم أعمق لكيفية أن الأمر يتعدى الصدفة، إلى تفسير يأخذ في الاعتبار عودة الساحرات إلى الحيز الثقافي والسياسي الغربي، الشعبي والنخبوي على حد سواء، لا بد من تسليط الضوء على بعض من أمثلة متكاثرة لشيوع موضوعة الساحرات ورمزيتهن النسوية والنضالية والتاريخية، خلال العامين الماضيين في أقل تقدير. 

فها هي مجلة L’Histoire تختار أن يكون الملف الرئيسي لعددها الصادر في شباط2019 بعنوان "محاكم التفتيش ضد الساحرات: إبادة جماعية نسائية؟"، وتطرح فيه الإشكاليات التالية: "محارق كثيرة أضرمت في أوروبا لإعدام ساحرات وسحَرة بين القرنين الـ15 والـ18، باعتبارهم أعداء المسيحية وخُدّاماً للشيطان كانوا يعدّون لملكوته، فهل كانت جرائم متخيلة اخترعها قضاة محاكم التفتيش؟ أم استئصالاً لممارسات شعبية؟ أم واحدة من موجات كراهية النساء؟ المؤكد أن الخوف المشترك تسبب في مقتل 60 ألف شخص على الأقل". وفي الوقت نفسه، تتداول وسائل إعلام أميركية خبراً عن مجموعة تسمي نفسها "الساحرات المسيحيات" بزعامة روحية معقودة "للكاهنة" فاليري لوف، التي أعلنت إقامة أول مؤتمر أو مجمَع لها في مدينة ساليم بولاية ماساتشوستس، في نيسان المقبل. علماً أن لمدينة ساليم، رمزية كبرى في تاريخ الساحرات، إذ شهدت خلال فترتها الكولونيالية، وتحديداً بين العامين 1692 و1693 سلسلة محاكمات لنحو 200 شخص اتهموا بممارسة السحر والشعوذة، ليتم في نهايتها إعدام 19 شخصاً (14 امرأة و5 رجال).

وقد باتت للظاهرة السحرية تطبيقاتها العملية، خصوصاً في الولايات المتحدة الأميركية، حيث تظهر بالعشرات، طوائف الساحرات، سواء اقترنت بالمسيحية أم بوثنيات العصور الوسطى الأوروبية أو المُنقَذ من مرويات سكان أميركا الأصليين. بعضهن انبرى لإلقاء التعاويذ واللعنات، علناً، على دونالد ترامب باعتباره عدو النساء والتنوع. والطريف أنه، وبعدما أطلق مناصرو دونالد ترامب – ومعهم جمهور بيرني ساندرز – على هيلاري كلينتون "شتيمة الساحرة" خلال السباق الرئاسي العام 2016، حاول الرئيس الأميركي المنتخب إعادة امتلاك المصطلح، ليطلق شعار "اصطياد الساحرات" في تغريداته كلما حُشر في تفصيل من تفاصيل ملاحقته من قبل روبرت مولر. وإذا كان ترامب يقصد الغبن اللاحق به في مطاردة ما هو غير موجود، بحسب زعمه، فإن الحراك الثقافي والمدني يجيبه، مرة بعد مرة: بلى، الساحرات موجودات، بل وستكون أنت مصبّ لعناتهن! إذ عادت الساحرات للظهور كأيقونات ثورية، سياسية عموماً ونسوية خصوصاً، لا سيما منذ المسيرة النسائية الشهيرة ضد ترامب ورئاسته، العام 2017، حيث التقطت الكاميرات مجموعات من النساء مرتديات السواد والقبعات المخروطية والأقنعة، وقد رفعن لافتات ضد العنصرية والتحرش والحد من حق المرأة في الإجهاض، وبين اللافتات واحدة كتب فيها: "نحن حفيدات الساحرات اللواتي لم تتمكنوا من حرقهن". وهي اللافتة التي ظهرت أيضاً في بولندا خلال مسيرة للاحتجاج على تقويض الحق في الإجهاض، كما في أكثر من تظاهرة في فرنسا، العام 2017، للاحتجاج على تعديلات في قانون العمل، ومناصرة الحق في الإجهاض.

وقد استرعت الناشطات الساحرات، انتباه كثيرين باعتبارهن تماهياً متجدداً مع الحركة النسوية الغربية في الستينات والتي رفعت الساحرات كرمز لتحرر المرأة وقوتها، وثمة من يتذكر شعار النسويات الإيطاليات، خلال عقد السبعينات: "ارتجفوا، ارتجفوا، فالساحرات قد عدن!". واليوم، مع اتساع حراك "مي تي" عالمياً، بموازاة صعود اليمين، واليمين المتطرف، إلى السلطة والخطاب، في أنحاء أوروبا والولايات المتحدة، تبدو اللحظة مؤاتية لاستحضار أرواح تلك الجَدّات من العصور الوسطى، لاستلهام قدراتهن الخارقة، حرفياً ورمزياً، وللانقلاب على المفاهيم المكرسة للخير والشر، الدين والإيمان، الثورة والتنميط، التاريخ والتاريخ المضاد.


تظاهرة في بوسطن -آب 2017- للتضامن مع ضحايا شارلوتسفيل: "الساحرات ضد التفوق الأبيض" (غيتي)

وتذهب الكاتبة سيلفيا فيديريتشي أبعد، في مقالتها المعنونة "الساحرات والصراع الطبقي"، حتى تكاد تقرّع المؤرخين الأوروبيين والأميركيين على إهمالهم لظاهرة اصطياد الساحرات التاريخية، وتهميشهم لها باعتبارها ثانوية، بل وفولكلورية، ما جعل ضحاياها من النساء الفلاحات غير مرئيات في تاريخ البروليتاريا. وتلوم، بشكل خاص، المؤرخين الماركسيين، الذين، وحتى خلال دراستهم للمراحل الانتقالية إلى الرأسمالية، وباستثناءات قليلة جداً، دفعوا ظاهرة ملاحقة الساحرات إلى النسيان، رغم أن "المجزرة تثير أسئلة كثيرة حول مئات الآلاف ممن تم حرقهم وشنقهم وتعذيبهم خلال أقل من 200 عام"، بحسب تعبيرها. وفي رأيها، أنه كان لا بد لانتباه المؤرخين أن ينجذب إلى فكرة أن محاكم التفتيش ضد الساحرات، تزامنت مع استعمار وإبادة شعوب "العالم الجديد"، إضافة إلى الانغلاق الانكليزي، وبداية تجارة العبيد، وتطبيقات "القوانين الدموية" ضد المشردين والمتسولين، ثم بلغت ذروتها في المرحلة ما بين نهاية الإقطاع وانطلاقة الرأسمالية، حينما بلغ الفلاحون الأوروبيون قمة نفوذهم ثم سرعان ما أتموا هزيمتهم التاريخية.


"مطبخ الساحرات" - فرانز فرانكن الأصغر (1606)

هن، إذاً، النساء الخارجات على التقاليد، المتمردات، المتحديات للسلطات الدينية والسياسية والأسرية. النساء اللواتي لم تجد المجتمعات القديمة ما يفسر سلوكهن، أو بالأحرى قوتهن، سوى الأساطير الشيطانية والتعاويذ السوداء والمنابع الظلامية.. وإلا فمن أين لهن بتلك الجرأة على امتلاك إرادات غير تلك التي يقوننها لهن الذكور في مراكز الهيمنة؟

المشهد السحري الغربي هذا يغري بكثير من التأمل، لا سيما أن ثمة ما يماثله عربياً، لكن من دون أن يضاهيه من حيث القدرة على تطويع الشعوذة وإعادة تعريفها في سياقات علاقات القوة، والجندر، وكسر القوالب، ومعارضة السلطة. إذ لطالما وقعنا على عشرات الدراسات، مثلاً، التي تفكفك صورة شهرزاد كأنثى تحدّت القمع/القتل الذكوري بأدوات العقل والرواية والغواية الأنثوية، والتي "سحرت" بها شهريار فملكت أمره وقاومته فطوّعته. والعناوين العربية كثيرة، في العلوم الإنسانية والصحافة، والتي تحاول شرح السحر وممارساته في عصرنا الراهن كشكل من أشكال الغيبية التي ما عاد هناك ملجأ سواها في ظل يأس عام من مؤسسات الحداثة العقلانية، سواء السياسية أو الاجتماعية، وذلك دوماً ربطاً بالدين وسطوته، كتأثير سلبي أو إيجابي في بروز مثل هذه الظواهر، وكمرتكز لشجبها أو تفهمها. وفي أحسن الأحوال، يكون التحليل النفسي السلاح "العلمي" في وجه كل ما يوصم بالسحر وخلاصاته. وهنا يبرز السؤال: هل سياق السحر العربي اليوم، وخصوصاً الساحرات العربيات، ينحصر في دائرة الممارسات المرذولة كعلامة جهل وتخلف لا تترك سوى آثارها المؤذية اجتماعياً وإنسانياً؟ أم أن هناك ما هو أكثر، ولا أحد ينتبه له؟
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها