الثلاثاء 2019/02/26

آخر تحديث: 13:00 (بيروت)

قاضي الغرام الديني.. ظالم القلوب المدنية

الثلاثاء 2019/02/26
قاضي الغرام الديني.. ظالم القلوب المدنية
(الصورة عن tawasolonline.net)
increase حجم الخط decrease
لا يملّ اللبنانيون من إعادة طرح موضوع إقرار "قانون الزواج المدني الاختياري" بشكل دوري. بدأ هذا الطرح منذ أكثر من سبعة عقود، وتكرر مراراً، وفي كل مرة تكرر النقاش نفسه، حتى أصبح مملّاً ومبتذلاً.

قالت وزيرة الداخلية، ريا الحسن، أخيراً، إنها تحبذ شخصياً أن يكون هناك إطار للزواج المدني، وإنها ستسعى "لفتح الباب لحوار جدي وعميق حول هذه المسألة مع كل المرجعيات الدينية وغيرها". الواقع يقول أن موقف المرجعيات الدينية واضح، وإقرار هذا القانون يحتاج إلى تجاوز هذا الموقف المعروف، وليس إلى تكرار الحديث الدائر من حوله. 

في مطلع العام 1952، نشرت صحيفة "النهار" مقالة من توقيع المحامي جان نفاع حول هذه المسألة تحت عنوان "الزواج المدني في القانون اللبناني لغير الطائفيين". استهل الكاتب حديثه بتأكيد طبيعة الزواج "الطائفي" في لبنان، نتيجة لانتساب الأكثرية الساحقة من المواطنين اللبنانيين إلى الطوائف المعترف بها من مسيحية وإسلامية ودرزية ويهودية، وهذه الطوائف تخضع لقوانينها الخاصة في تنظيم عقود زواج المنتمين إليها. إلى جانب هذه الأكثرية الساحقة، نجد لبنانيين ينتمون إلى طوائف غير معترف بها، كما نجد مواطنين لا ينتمون إلى أي طائفة، ومنهم على سبيل المثل الدكتور أيوب تابت الذي "أجبر دوائر الإحصاء في بيروت، عند تنظيم جداول الناخبين كل بحسب طائفته، ان تنظم جدولاً خاصاً به بصفته لا طائفياً".

كرّس الدستور اللبناني حرية المعتقد بشكل عملي، اذ سمح "لكل من أدرك سن الرشد وكان متمتعاً بقواه العقلية أن يترك أو يعتنق طائفة ذات نظام شخصي معترف به". ورأى جان نفاع ان هذا السماح يتيح للبناني "أن ينعتق من طائفته فيصبح لا طائفياً أو ان ينتقل من رعوية طائفة إلى رعوية طائفة أخرى". ينتمي البعض إلى طوائف غير معترف بها، والقانون يدعو هذه الطوائف إلى ان "تنظم شؤونها وتديرها بحرية ضمن حدود القانون المدني"، "فاللبناني الذي ينتمي إلى طائفة غير معترف بها وليس لديها نظام خاص للزواج، وكذلك اللبناني المنعتق من كل طائفية أو اللاطائفي، يخضع اذن في أحواله الشخصية إلى القانون المدني ويُعتبر زواجه عقداً مدنياً يجريه أمام السلطة المدنية الصالحة في الدولة".

في الختام، رأى صاحب المقال "أن التشريع اللبناني يعترف بوجود أشخاص لا ينتمون إلى أي طائفة دينية، بل يسمح لأي لبناني بلغ سن الرشد بأن ينعتق من الطائفة التي ولد فيها. والمشترع اللبناني يخضع اللاطائفيين في أحوالهم الشخصية للقانون المدني، كما يخضع لهذا القانون الأشخاص المنتمون إلى الطوائف غير المعترف بها. لكن القانون المدني لا يحتوي على أي نظام ولا ينص على اية شروط خاصة بعقد الزواج"، والمطلوب من السلطات العامة "وضع تشريع مدني للزواج"، "وبهذا تكون السلطات العامة قد راعت شعور الطوائف ورؤسائها الدينيين، وراعت، في آن واحد، مصلحة الدولة ورغائب المواطنين".

طرح المحامي جان نفاع مسألة الزواج المدني الاختياري في مطلع 1952، وذلك في سبيل "الخروج من المأزق الحرج الذي نتخبط فيه منذ صدور قانون 3 نيسان 1951"، كما قال في نهاية مقالته، غير ان الوضع بقي على حاله منذ ذلك الزمن كما يبدو. بحسب القانون اللبناني، "يعتبر عقد الزواج المدني صحيحاً من حيث الشكل، كل زواج معقود في الخارج وفقاً للأصول القانونية الشكلية المطبّقة في البلد الذي عُقد فيه"، وتؤكد الدولة وجوب أن يكون هذا الزواج معقوداً خارج الأراضي اللبنانية لكي يتم الاعتراف به وتسجيله في دوائر النفوس والأحوال الشخصية الرسمية في لبنان. 

تكرر الحديث عن الزواج المدني في الخمسينات، وبلغ صفحات "قاضي الغرام" الخاصة بالمشاكل العاطفية لقراء مجلة "الصياد". كتب شاب مسلم من طرابلس، أحب فتاة مسيحية تبدي له الكثير من الود واللهفة، فردّ عليه قاضي الغرام وقال: "يظهر أنك لم تقرأ حتى الآن ما كتبته في صدد هذا النوع من الحب الذي يقوم على اختلاف الدين. فلو فعلت لوفّرت عليَّ مؤونة التكرار ووفرت على نفسك مؤونة الكتابة. ان حبك لهذه الفتاة فاشل يا صديقي لأن الدين لا يزال في شرقنا العربي يشكل عقبة في سبيل الزواج اللاطائفي". إثر هذا الجواب، أرسل قارئ من اللاذقية رسالة تقول: "ان ما دفعني للكتابة في هذا الموضوع تلك الرسالة التي سبق ان نشرت في باب قاضي الغرام والتي يقول فيها حضرة القاضي ان الدين لا يزال يشكل عقبة في سبيل الزواج المدني اللاطائفي. وأنا أقول رداً على ذلك أنه آن لنا أن نبعد عنا شبح التعصب الذميم وأن نفسح مجال التآلف والتعاون أمام القلوب المتحابة كي تسعد في ظل الزوجية".

أمام هذا الواقع، أعدت مجلة "الصياد" ملفاً واسعاً حول الزواج المدني، يظهر اتحاد رجال الدين على اختلاف مللهم، واتفاقهم على رفض مبدأ هذا الزواج في المطلق. تكررت التجربة في الستينات، وتكررت الأجوبة نفسها، تماماً كما يحصل اليوم. في نهاية العام 1967، تحت شعار "تزوج خارج لبنان واقبض مئتي ليرة"، اقترح حزب "الحركة العلمانية الديموقراطية" هذه المكافأة الرمزية لكل لبنانيين يعقدان زواجاً مدنياً، سواء كانا منتميين إلى هذا الحزب أو لا، وذلك لتشجيع هذا النمط من الزواج.

تأسّست "الحركة العلمانية الديموقراطية" بموجب علم وخبر رقم 846 بتاريخ 19 أيلول/سبتمبر 1963، وكان مؤسسوها ميشال غريب، يوسف أبو عسيلي، محمد غلاييني، هنرييت الحاج، سامي الشقيفي، جورج الشويري ويوسف الغصن. اقتصر عدد أعضائها على مئة في سنتها الأولى، وبلغ حوالى الألف سنة 1967، ومنهم أحمد طبارة، نصار غلمية، فاروق درويش، ونبيل شميط. ضمت هذه الحركة عناصر من جميع الفئات ومن الجنسين، وشكلّ المحامون فيها أكبر مجموعة. أطلقت الحركة دعوتها إلى الزواج المدني في جلسة عقدتها في فندق الكارلتون، وقالت ان مبلغ المئتي ليرة هو "لتغطية النفقات التي يستلزمها السفر براً إلى أقرب مكان خارج لبنان، وهي مدينة مرسين في تركيا، حيث يتولى قنصل لبنان تسجيل العقد بعد اتمامه لدى السلطة التركية". وعدّدت "حسنات الزواج المدني في ست نقاط"، وأكّدت انها لا تنتظر من الدولة ان تساندها في هذه الدعوة، "لأنها قائمة على أسس طائفية، ولأن مصلحة السياسيين هي في الإبقاء على هذه الأنظمة"، كما نقلت مجلة "الأسبوع العربي".

كما جرت العادة في لبنان، طرحت المجلة هذه المسألة أمام المراجع الدينية، ونقلت رداً من الأب (المطران لاحقاً) الدكتور منجد الهاشم، ورداً من الدكتور الشيخ صبحي الصالح. قدم الأب الدكتور الرد المسيحي المعروف، واتهم الحركة العلمانية الديموقراطية "بنشر دعايات وبيانات تُغري الأشخاص بمبالغ مادية حتى لو كانت زهيدة لتشتري ضمائرهم، وتحرضهم على القيام بأعمال تتنافى والكرامة الإنسانية لجهة دفعهم إلى عمل يتنافى والقوانين التي يؤمنون بها إذا كانوا مؤمنين". كذلك، قدم الدكتور الشيخ الرد الإسلامي المعهود، وأكّد أن "الزواج في الإسلام عقد مدني محاط بجو من القدسية والإجلال"، وأضاف: "المحاكم الشرعية القائمة هي البقية الباقية الممثلة لتنظيم الأحوال الشخصية في الإسلام، ولذلك لا نستشعر الحاجة إلى إجراء أي تبديل".

وقالت مجلة "الأسبوع العربي" في ختام تحقيقها: "كان رد الفعل لبيان الحركة العلمانية خارج لبنان عنيفاً، وتناولت بعض الصحف العربية الموضوع من زاوية أخرى ناعية القيم والمبادئ، آخذة على الحركة تجنيها على التراث وكل ما يشدنا إلى الروح".
 
أصحاب القلوب المتحابة، في لبنان، الذين لا يريدون أن يسافروا إلى الخارج لإبرام عقود زواجاتهم، كيف تنصفهم دولة القانون، إذا كانوا لا يريدون أن يكون قاضي الغرام بينهم دينياً؟
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها