الخميس 2019/02/21

آخر تحديث: 12:40 (بيروت)

شربل داغر: أنا آخر بصحبة ويتمان بودلير رامبو ونيتشه‬(*)

الخميس 2019/02/21
شربل داغر: أنا آخر بصحبة ويتمان بودلير رامبو ونيتشه‬(*)
أما نيتشه، فلم يَدْعُني إلى أي بهو أو ممر في كُتبه
increase حجم الخط decrease
(*) قررتُ، بعد ظهر اليوم، زيارة ويتمان. لم تكن الشمس قد أودعتْ ابتساماتها الأخيرة، حينما دلفتُ إلى جانبه، تاركًا لبعض الظلمة أن تقيم حدًّا بيني وبينه، من دون أن أُقلق عكوفه إلى ماء بحيرة تطفو في عينَيه الناعستَين... 

أما نيتشه، فلم يَدْعُني إلى أي بهو أو ممر في كُتبه. وقعتُ عليه صدفة، مساءً في فرانكفورت، في مطعم، مع لو أندرياس-سالومي، التي بدتْ أمكنَ منه في جلستها المُحْكمة، فيما كانت تنهمر من عينَيه دموع ثخينة، ببطءٍ مؤلم، قبل أن تتسرب إلى شاربَيه الكثَّين من دون أن تلحظها المتباهيةُ بِطَلَّتها. إذ كان ينكبُّ بصورة مزيدة على صحنه، ويعالج باليدَين، بفوطة الأكل، ما كان الساهرون - ومنهم أنا، إلى جانب طاولته - يظنونه متساقطًا من غيمة عابرة: لم يكن في مقدورنا كلنا - ما عداها - أن نرى غير شجرة في هامته، شجرةٍ يقظة في جبله العالي والمتوحد. 

لم يكن في مقدورنا كلنا - ما عداها - أن نقترب منه، أن نلمس النسيمات الخفيفة التي تندسُّ بنعومة بادية في فروة رأسه، ما دام أن هالةً تنيرُه وتُبعد عنه تعدِّيات الملائكة. 

أما رامبو، فقد أدار ظهره ومضى، من دون أن يبلغه صوتي. 

عبثًا وقفتُ أمام قبره، مع وردة بين يدي؛ عبثًا شددتُ على معطفي - لشدة البرد - أمام البناية التي سكنَ فيها، أو في الحديقة قرب محطة قطارات هربِه! 

عبثًا أتيتُ بصورةِ لوحةٍ إلى مقهى، تبادلَ فيه المُسكرات غيرَ مرةٍ مع "ملاعين" آخرين!

لم يبقَ شيءٌ غير حقيبة جلدية في متحفه، وغير الهواء الهائل الذي عصفَ في ممرات غيابه... فمن أين لي أن أتحسس البخار أو اللهاث أو تمتماتِه المتعالية في إفريقيا وجعِه، محمولًا فوق نقّالة بطيئة أكثر من سلحفاة وجدتْ نفسها حيث ما كان لها أن تكون: في صحراء الانفراد الأبدي!؟ 

كان في ودي أن أبادله بضع كلمات عمّا جرى لكثيرِين خلفه، لكنه ما توقفَ، أو استعاد خطاه، حيث في إمكاننا ملاقاته. 

حتى كتبه أبقتني خارجها. أقرأ فيها كما في صالة، على كرسي، فيما تتتالى صورها أمام عينيَّ المصعوقتَين. 

لعله إشاعة مكَّنتني من التخفي في ظله المديد، من تعقب خطواته في العتمة، ما يجعل غيابه سببًا وحيدًا، أكيدًا، في الجري وراء بيت القصيدة.

أما بودلير فلم أُوفق به في المقهى؛ ما أن أحلَّ فيه يُخطرني النادل بأنه خرجَ للتو. ولم أُوفق به في الروض الملتفِّ على أشجاره، إذ ما أن كنتُ أصل إلى بوابته حتى أضطر للتوقف إفساحًا في المجال لخروج الكثيرين منه: نساء وأطفال وغمامات كآبة... وإذ أتوجه بالسؤال إلى حارس الروض عنه، يجيبني: ألم ترَه؟... خرج بين الحشود".

(*) مدونة نشرها الشاعر والناقد شربل داغر في صفحته الفايسبوكية وهي مقدمة لكتابه "أنا هو آخر بصحبة ويتمان بودلير رامبو ونيتشه‬".

للحصول على الكتاب هنا

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها