الخميس 2019/02/21

آخر تحديث: 17:31 (بيروت)

ديموقراطية اللغة

الخميس 2019/02/21
ديموقراطية اللغة
الخطاب النسوي يتحول أحياناً شرطة ثقافية، تلوح بوصمة الذكورية لكل من لا يعبّر بالشكل "القويم"(غيتي)
increase حجم الخط decrease

في صالة الانتظار التابعة لعيادة طبيبة صحة عامة فرنسية، عُلّقت على الجدار لوحة صغيرة رُسمت فيها فتاة ظريفة، بمريول أبيض وسمّاعات طبية، وتحتها عبارة: "عندما أكبر سأصبح طبيبة (doctoresse)". اللوحة، بألوانها وخطوطها الطفولية، تستدعي ابتسامة، والابتسامة تكبر مع العبارة التي تستخدم الصيغة المؤنثة لمهنة الطب، وهي صيغة مستجدة في اللغة الفرنسية. والواضح أن طبيبتنا أرادت تظهير قناعة لديها، وإيصال رسالة جندرية لغوية محببة، لزوارها من الأطفال والكبار سواء بسواء.

لكن الموضوع في فرنسا بات يتجاوز المواقف الفردية والنقاشات النخبوية. خرج إلى السجال العام الذي يتابعه الإعلام الفرنسي التقليدي بأثر من مبادرات شتى، منذ إتاحة تأنيث الرتب العسكرية العام 2003، ثم حذف لقب "مادموازيل" (آنسة) من المعاملات الرسمية العام 2012، وصولاً اليوم إلى رفض رئيس الحكومة إدوار فيليب طلباً تقدمت به جمعية متخصصة في قضايا الجنسانية والجندر من أجل اعتماد "الكتابة الشاملة" في نصوص الجريدة الرسمية الفرنسية، وهو ما حدا بالجمعية إلى اللجوء لمجلس شورى الدولة الذي يتوقع أن يبت في الأمر خلال أسابيع.

أما المقصود ههنا بالكتابة الشاملة (l’ecriture inclusive)، فهو طريقة في الكتابة تتوخى التوازن الكامل في تأنيث -كما تذكير- كافة الوظائف والمهن، إضافة إلى المصطلحات المستخدمة في الاستمارات والمؤسسات العامة، والقرارات والقوانين التي تريد الدولة الفرنسية تعميمها رسمياً. ومن المقترحات، إيراد التذكير والتأنيث كلما دعت الحاجة (ولنتخيل كم مرة ستدعو الحاجة في نصوص الجريدة الرسمية الموجهة لعموم الشعب)، على طريقة "مواطنين/مواطنات". أو استخدام ما بات يعرف بـ"نقطة الوسط" كأن تُكتب صيغة الجمع من كلمة "مرشح" على الشكل التالي: "candidat.e.s"، وتُقرأ "candidats/candidates". أو تستبدل بتعبير "الأشخاص المرشحين". إضافة إلى إلغاء القانون اللغوي الفرنسي السائد منذ القرن الـ17 (وهو نفسه في اللغة العربية أيضاً) القائل بأن وجود ذَكَر واحد في الجملة، ضمن مجموعة إناث، يفرض استخدام الصيغة اللغوية الذكرية، لصالح جعل الصفة متوائمة مع الاسم الأقرب إليها، كأن يقال: "الرجال والنساء متساويات".

وإذا كان موضوع الكتابة الشاملة في فرنسا، المتقدمة حقوقياً وتشريعياً وجندرياً في مجال المساواة المواطنية، ما زال محل أخذ ورد، بين داعم لكسر الهيمنة الذكورية على اللغة منذ قرون، خطوة بخطوة وبالقانون بل وحتى في المناهج المدرسية، وبين معارض للمسّ بقواعد اللغة تحت طائلة جعلها أكثر تعقيداً واستعصاء على الفهم والممارسة، فإن ثمة من يعتبر أنه يفتح الباب على نقاش قد يبدو لنا، نحن أبناء لغة الضاد، ترفاً لا نملكه. فالقوانين العربية، في غالبيتها الساحقة، ما زالت عميقة الإجحاف في حق النساء، في الأحوال الشخصية والعمل والانتخاب/الترشيح والمناصب الدينية والعامة والعنف الأُسري وجرائم الشرف.. وسواها من المناحي الأساسية للحياة اليومية وثقافتها وسياساتها واجتماعها. ناهيك عن الأعراف والتقاليد والأفكار السائدة بشأن المقبول وغير المقبول لكل من الرجل والمرأة.

لكن الواقع أن أصواتاً بدأت تتعالى، في العديد من المجتمعات العربية، لا سيما في لبنان، للمطالبة بمساواة لغوية مماثلة، على غرار النقاش الذي ساد قبل سنوات عن الصراع بين اللهجات العامية العربية المختلفة، والعربية الفصحى، والانفصامات التي سلّطت عليها الأضواء، والمعارك التي خيضت انتصاراً للخصوصيات المحلية في الشعر والرواية والصحافة والغناء. والحال أننا بتنا نرى أمثلة متزايدة، في منشورات مواقع التواصل الاجتماعي مثلاً، لكتابات على طريقة "كل منكم/منكن، المهتمون/ات، حضورهم/ن.."، والتي بدأت تظهر أيضاً، ولو بشكل محدود، في نصوص صحافية وأكاديمية. والمنطق المسوغ هو نفسه في كل مكان: اللغة تعكس طريقة في التعبير عن العالم من حولنا، لكنها أيضاً طريقة لتشكيل هذا العالم. واللغة يمكنها، بل عليها، أن تتأقلم. وكما باتت النساء ظاهرات ومشاركات فاعلات في الحيز العام، فعلى اللغة أن تمثلهن وتظهّرهن بما يتناسب والمشهد العام. إضافة إلى أن الأشخاص الذين لا يرون أنفسهم بالكامل في النوع الأنثوي وحده أو الذكريّ وحده باتوا أكثر مرئية، وهؤلاء أيضاً يجب تمثيلهم.

عملياً، هي مقولات "الصواب السياسي" الذي تتسع الفئة المتحدثة به والمُناصِرة له، في الغرب أولاً، ثم في أنحاء كثيرة من العالم. وتعاليمه لا تنحصر في الجندر، بل تمتد إلى قضايا ذوي الاحتياجات الخاصة والملونين والأقليات وكل "المختلفين" الذين يتم تهميشهم أو التمييز ضدهم، لغوياً وحياتياً. وهنا، لا جدال، من حيث المبدأ، في أحقية الأفكار هذه. سوى أن الأمر بات يستحق نظرة أخرى، خصوصاً بعد مبالغات متكاثرة باتت تشوب الخطاب النسوي وتطبيقاته، بحيث أنه يتحول أحياناً إلى شرطة ثقافية ولغوية جديدة لا تني تلوح بسيف الوصم بالذكورية وكراهية النساء والرجعية لكل من لا يعبّر عن نفسه بالشكل "القويم" الذي تحدده سلفاً "النسوية الجديدة"، والتي باتت تقترب من عقلية "كهنة اللغة" الذين يلاحقون الجميع بـ"قُل/لا تقُل". وهو ما يكاد يشكل خصومة مع حرية الإبداع والتعبير، بل إنه يشكل تحدياً غير منصف لتطور اللغة، بمنطق أن الإضافة هي الحل بدلاً من الاختزال والتكثيف، أو بدلاً حتى من الإضافة المقننة بمعيار مرة واحدة في أول النص.

أما ما يُنادى به الآن، سواء بالفرنسية أو العربية، فهي الإضافة التي تهدد باللغو والحشو، والاستنزاف غير المبرر لكاتبها وقارئها والناطق بها، فقط من أجل إرضاء صورة – بدأت بدورها تصبح مهيمنة وأحياناً متسلطة – عن المساواة الجندرية. أما الاختزال، فقد يعني إعادة تعريف وامتلاك الصيغ الذكرية، بحيث تصبح ممثلة لنوع بدلاً من جنس، أي نزع صفة الذكر عنها لصالح جعلها حيادية الجنس وممثلة للجميع، كما هي الحال في الغالبية الأعم من قواعد اللغة الإنكليزية التي – بالمناسبة – لم تكن كذلك منذ بداياتها، لكنها بدأت تتكسر لتتطور منذ القرن الحادي عشر وصولاً إلى الزمن الحديث، كما هو شأن الكثير من مناحي الثقافة والسياسة في التاريخ الإنكليزي الذي يصنع "الثورات" والفوارق تراكمياً.

لا شك في أن النقاش معقّد، ويحتمل التقليب على جوانبه العديدة التي لا تتسع هذه السطور لها كلها، ومنها: هل "الصواب الجندري" المنشود بمثل المقترح الفرنسي الأخير، وفي ما يخص أي لغة بالمطلق، يغني اللغة أم يفقرها؟ يطورها أم يقلّم أظافرها؟ ينال من شعريتها أم يكسبها واقعية العصر؟ يجعلها أكثر مصداقية وعملية أم يحيلها طلاسم منفرة؟ وإذا كان المقترح اليوم محصوراً في العلوم الإنسانية والنصوص الرسمية والصحافية والأكاديمية، كما يقول داعموه، فمتى ينتقل إلى الأدب والابتكار؟ وما الذي سيحصل عندها؟

لكن السؤال الأكبر يبقى: أيهما الأكثر ديموقراطية: اللغة الحياد، كالانكليزية، التي توحد الجنس في صيغة حيادية مشتركة لمعظم الأسماء العاقلة، وتنفي جنسانية غير العاقل، ويأخذ تطورها شكل التبسيط والفكفكة، بدلاً من زخارف وتشعبات مزيدة؟ أم اللغة التي، كالفرنسية، تحرص على الظهور الكامل للجنسين (أو أكثر)، وتمثيلهما، كلٌّ بخصوصيته تأنيثاً وتذكيراً، حتى في الأسماء غير العاقلة والتي على الأرجح اُنّثت وذُكّرت عشوائياً على مر القرون؟ وهل المقترح الفرنسي الجديد يزيد لغة الفرنسيين ديموقراطية؟

الإجابات تترك لفقهاء ومتخصصين. لكن المؤكد أن هناك مسببات مكينة، بعضها متعلق بجوهر اللغة، جعلت الإنكليزية لغة عالمية.. دوناً عن الصينية مثلاً.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها