السبت 2019/02/16

آخر تحديث: 14:30 (بيروت)

"ثلاثة غرباء متطابقون": أسئلة المختبر الكبير

السبت 2019/02/16
"ثلاثة غرباء متطابقون": أسئلة المختبر الكبير
إلى اليوم لم تعترف أي جهة بمسؤوليتها عن البحث الطويل،
increase حجم الخط decrease
ينتقل الشاب الأميركي، ابن الـ19 عاماً، إلى المدرسة العليا في شمال ولاية نيويورك في يومه الدراسي الأول، خريف 1980، ويستقبله الطلبة بحميمية من يعرفه من قبل، ولزمن طويل. لا يحتاج الأمر سوى دقائق، حتى يكتشف الجميع إنهم يظنونه شخصاً آخر، يشبهه تماماً. لكن تلك التيمة السينمائية المكررة، لم تكن سوى المقدمة لسلسلة من انحرافات القدر المفاجئة في فيلم "ثلاثة غرباء متطابقون"، فسرعان ما يتوصل الفتى لحقيقة أن له أخاً توأم، كان قد انفصل عنه حين كان عمره ستة أشهر. وبعد وصول الأخبار إلى الصحف، مع صورة للأخوين، يظهر لهما أخ ثالث. يتحول الثلاثي المتطابق، إلى مادة مثيرة لوسائل الإعلام الأميركية، وتطاردهم كاميرات الصحافيين بين البارات والملاهي الليلة. القصة مثيرة جداً. ففي العام 1961 تبنت كلاً منهم أسرة مختلفة، واحدة من الطبقة العاملة، والاثنتان الأخيريان من شريحتين متباينين من الطبقة الوسطى. ومع هذا، فإن الثلاثة يحركون أيديهم بالطريقة نفسها، ويدخنون ماركة السجائر نفسها، ولهم الذوق نفسه في النساء الأكبر سنا. بل ولكل منهم أخت بالتبني في السن نفسه بالضبط.

يضم الفيلم كل الحبكات الممكنة، من قصص الحب والزواج والصعود المهني والانهيار المأسوي. فالإخوة الثلاثة لا ينفصلون أبداً، ويؤسسون مطعم "التوائم الثلاثة" في نيويورك، الذي يحقق مكاسب خرافية، في عامه الأول، لكن سريعاً ما تدب الخلافات بينهم، وفجأة ينتحر أحدهم، أكثرهم مرحاً تحديداً. لكن هذا كله ليس سوى خلفية للحدث الحقيقي، فبفضل جهود صحافي استقصائي، تكتشف الأسر الثلاث، إنهم كانوا جزءاً من بحث سري. فوكالة التبني وبشكل منهجي فصلت عشرات التوائم في ولايات الساحل الشرقي الأميركي، ووضعتهم في رعاية أسر، اختيرت على أساس شروط بحثية مسبقة. فالتفاوت في المستوى الاجتماعي للأسر الثلاث، لم يكن من باب الصدفة، ولا حقيقة أن لكل أخ فيهم أختاً في السن نفسه بالضبط. على مدى عشرين عاماً، كان المشروع الممول من جهة مجهولة في واشنطن، مستمراً، وأخضع خلالها "أطفال التجارب" لاختبارات دورية، من دون أن تعرف أسرهم الغرض من كل هذا. لا يصل بنا الفيلم إلى نهاية مريحة، فالبحث الذي أشرف عليه طبيب نفسي نمساوي، كان قد فر من الهولوكوست إلى الولايات المتحدة، لا تنشر نتائجه أبداً، وتظل عشرات وعشرات من الصناديق التي تحوي تقارير عن سير العملية، محفوظة في مكتبة إحدى الجامعات الأميركية، بتوصية بعدم فتحها للاطلاع قبل العام 2066. وبالطبع لن يكون أحد من الضحايا مازال على قيد الحياة حينها.


كان لكل تلك التفاصيل أن تصنع فيلماً متوسط المستوى، تثقله ميلودراميته المبالغ فيها مع هوس نظرية المؤامرة. لكن الحقيقة التي يعرفها الجمهور منذ البداية هي أن "ثلاثة غرباء متطابقون" هو فيلم تسجيلي، وأن تفاصيله لأحداث حقيقية. لم يتدخل مخرج الفيلم، توم واردل، في ترتيب أحداثه، سوى لتوجيهها إلى واحد من ضمن الأسئلة الكبرى لعلم النفس: الطبيعة أم التطبع؟ هل نولد بشخصياتنا موروثه في جيناتنا؟ أم إنها التنشئة والبيئة هي ما تصنعنا؟ يلعب واردل، الدارس لعلم النفس، بجمهوره، فيقودنا في البداية للتصديق بأن الأخوة الثلاثة متطابقون في كل شيء، حتى يصل للحظة انتحار أحدهم ليحيلنا إلى التنشئة ويحاول في المشاهد الختامية موازنة الأدوار لكل من الطبع والتطبع.

لكن الأسئلة الكبرى لم تكن بالضرورة الشيء الأجدر بالاهتمام في "تجربة التوائم"، بل ذلك اليقين بإمكانية إجابتها حتى وقت قريب. فمن المفزع، أن تستمر التجربة، عقدين كاملين، وربما كان لها أن تستمر وقتاً أطول، لولا افتضاح أمرها مطلع الثمانينات فقط، بفضل التوائم الثلاثة. فالصادم هو أن فكرة التعامل مع المجتمع بوصفه مختبراً كبيراً، يلعب فيه العلماء والتقنيون دور الآلهة، وهم يعبثون بمصائر الأفراد كفئران للتجارب، ليست بعيدة عنا تاريخياً. أما السرية التي جرى بها الأمر، والحس التآمري، فيبدوان تذكيراً بكل تلك المشاريع العظمى التي تبلي القواعد باسم المصلحة العامة، وتلعب بمصائر الأفراد في سبيل قيم عليا كالمستقبل والإنسانية والمعرفة.

حتى اليوم، لم تعترف أي جهة بمسؤوليتها عن البحث الطويل، ومن المفترض أن عشرات التوائم من ضحاياها لا يعرفون شيئاً عنها، أو عن كونهم جزءاً منها. لا يعني هذا أن فرصة أن ينحرف أحدهم على ناصية الشارع، ليصطدم بشخص يشبهه تماماً، عالية، لكنها تظل احتمالية قائمة بلا شك. ففي ذلك المختبر الكبير، هناك الكثير مما لا نعرفه عن أنفسنا. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها