الأحد 2019/12/08

آخر تحديث: 10:46 (بيروت)

"على خط غرينتش"لشادي لويس..المسيحي كمسلم أسود

الأحد 2019/12/08
"على خط غرينتش"لشادي لويس..المسيحي كمسلم أسود
فأي شخص يمتلك حمام سباحة في بيته هو أبيض بلا شك
increase حجم الخط decrease

ثمة خط يربط بين رواية شادي لويس الأولى "طرق الرب"، والثانية "على خط غرينتش"*، لا يظهر فقط في صلاحية الأولى كخلفية تؤرخ لبطل الثانية، الذي لا يملك اسمًا ظاهرًا أو سردية توضح دوافعه في الهجرة إلى أوروبا، ولكن أيضًا لأن شريف بطل "طرق الرب"، الذي درس الهندسة، يبدو وكأنه المتحكم في رسم الخط السردي الرئيس في الرواية الثانية، والذي يبدأ دائمًا من نقطة بعيدة في ذاكرة البطل قبل أن يلتحم بلحظته الحاضرة، أو مأزقه الذي استدعى تلك الذكرى، في عملية تشبه إلى حد كبير عملية التوصيل الكهربائي: سلك يمتد من مصدر، ربما يبعد عشرات/مئات/ ألاف الأمتار، لينير مصباحًا أو ليخلق مصدرًا جديدًا للطاقة.

لا تقف وظيفة ذلك البناء الذي اعتمده لويس، حد تحفيز الذاكرة، أو لتعويض البطل نفسيًا باعتبار أن الماضي"أكثر رأفة من الحاضر" لأنه يشغل "الناس عن بؤس حياتهم"، ولكن لأن هذا البناء يحول بطل الرواية، المرتبك، والمنصاع بشكل ما للنظام، إلى خط وهمي يشبه تمامًا خط غرينتش، ولكنه على خلافه لا يقسم العالم إلى نصفين شرقي وغربي، وإنما يقسم قسوته إلى نصفين، كل بحسب موضعه من النظام، فيصير شرقه قاسياً بطريقة عشوائية، وغربه يتسم بقسوة منظمة.

في "طرق الرب" كان لويس يستعرض مأساة المسيحيين بين كنيسة متعنتة، ودولة تعتبرهم رعايا فاقدي الأهلية، مثلهم مثل اللاجئين السودانيين الذين احتلت أزمتهم والمذبحة التي تعرضوا لها في القاهرة عام 2005 موقعًا بارزًا من الرواية. وفي "على خط غرينتش" يحمل لويس مسيحه واللاجئين إلى جغرافيا أخرى، هيأت له حكايات جدته بأنها قادرة على استيعابه كمسيحي، ورفعه إلى درجة أعلى من قاع السلم الاجتماعي الذي كان يحتله في بلده، حيث خاله "نايل" الذي اختفى أو لقي حتفه في حرب الكويت، وكانت المجندات الأميركيات يعطفن عليه ويمنحنه "اللبن والشيكولاته" لأنه مسيحي مثلهم، لكن بطله يصطدم بنظام أوروبي يضعه أيضًا في قاع السلم الاجتماعي، مثله في ذلك مثل "شريف موريس بولس"، الذي لم يستطع في "طرق الرب" أن يكون مواطنًا مصريًا كامل الأهلية، أو ينتسب إلى الأجانب حيث رفضه والد حبيبته الألماني، الذي يدين بنفس ديانته، لأن "الثقافة التي تربى عليها مسلمة".

تبدأ الأحداث في "على خط غرينتش"، عندما يتوفى لاجئ سوري شاب في لندن، يدعى "غياث"، وفي حين تعيش أسرته في مصر فإن أحد معارفها يطلب من بطل الرواية، أن يتولى أمر الدفن، فتحيله مفردتي اللجوء والموت إلى حياته السابقة في مصر، وتتقاطع مع عيشته الحالية في لندن، حيث يعمل مسؤولا في إدارة "الرعاية في المجتمع" التي تتولى بحث حالات اللاجئين وتوفير مساكن دائمة لهم، لكن بطل "غرينتش" بالرغم من  أنه يواجه في لندن ما سبق وواجهه "شريف" في "طرق الرب"، حين يعامله الأوروبيون "كما يُعامَل المسلمون" (...) في المطارات كانوا يوقفونني كما يوقفون المسلمين، ويفتشوني كما يفتشونهم، ويدققون في أوراقي كما في أوراقهم، ويسألونني أسئلة غليظة كما يفعلون معهم بالضبط"، إلا أن شادي لويس لا يطرح أزمة بطله من منطق روايته الأولى، وإنما يأخذها إلى نطاق أوسع غير قائم على أساس ديني، وإنما إنساني يناقش وضع الأقليات –بمن فيهم اللاجئون- وأحوالهم النفسية بشكل عام، فكلهم بحسب صديقه النيجيري "كايودي" في عرف الأنظمة سواء تلك التي ينتمون إليها أو الغريبة عنهم، ليسوا إلا سودًا وإن كانت ألوانهم غير ذلك، أي أنهم مواطنون أدنى بكل ما يحمله اللون الأسود من تاريخ عنصري، وهو الأمر الذي يرسخ في شخصيات الرواية جميعهم شعورًا كبيرًا بالدونية والنقص لا يعوضه شيء سوى أن يجدوا من هم أقل منهم رتبة في الاضطهاد والتمييز، وهم في حالة بطل الرواية "المهجرين الفلسطينيين" قبل سفره إلى لندن، وهم بعد سفره: اللاجئون إلى أوروبا الذين يبحثون عن إعالة، أما في حال صديقه كايودي فلا يكون التعويض سوى بأن يعود إلى نيجيريا غانماً بما يؤهله لكي يعيش عيشة البيض: "فقط وكما قال، يمكننا، أنا وهو، ومن على شاكلتنا أن نصبح بيضًا حين نعود للبلاد التي أتينا منها. وفجأة، ودون أن أسأله، جاء كايودي على سيرة حمّامات السباحة، فأي شخص يمتلك حمّام سباحة في بيته هو أبيض بلا شك. وهو آجلًا أم عاجلًا سيكون أبيض في نيجيريا، حين يشتري البيت الذي سيتقاعد فيه هناك، وهذا ما يجعله عضوًا في فئة لم يذكرها في قائمته من الألوان: بيض المعاش السود".

وتضعهما تلك الأزمة ومعاناتهما المشتركة من التمييز، أمام معضلة أخلاقية حين يقعان في مأزق بسبب انتحار إحدى اللاجئات اللائي يبحثان حالتهن، وفي حين يبدو كايودي مصممًا على عدم العودة إلى بلاده دون أن يظفر بـ"حمّام سباحة" وراتب تقاعدي يسمح له بالانضمام إلى "بيض المعاش السود"، فإن اتخاذه قرارًا بالتلاعب في البيانات الرسمية الخاصة بالمنتحرة، يكون أهون عليه من صديقه المصري الذي لا يستطيع مجاراته وحسم قراره بالجدية نفسها، ليس فقط لأنه يواجه مأزقًا أخلاقيًا حقيقيًا، ولكن لأنه تربى على ألا يضر، وأن يمنح وجهه لصفعات عدوه في استسلام، ولم يكن يكفيه من هذه الدنيا سوى أن يعيش في درجة مواطنة أعلى قليلا من غيره، فانتهى مرتبكًا لا يعرف إلى أي الجهات ينتمي: للذين يعانون من القسوة، أو الذين انصاعوا لممارستها على من هم أدنى منهم نيابة عن "نظام" لا يريد ليده أن تتسخ. كخط فاصل، يقسم العالم بالطول، أسفله نظام شديد الغشم يمارس قسوته في عشوائية، تساعده سيرتها على تحمل قسوة لا تقل غشما عن سابقتها ولكنها منظمة، وكأنها العلامة الوحيدة على اختلاف القسمين فقط في: النظام، وكأن علامته الوحيدة على الرضا أن ثمة من هم أكثر منه سوادًا!


(*) صدرت الرواية في القاهرة عن دار العين للنشر.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها