الخميس 2019/12/05

آخر تحديث: 11:24 (بيروت)

زهير هواري لـ"المدن":هذا جيل يتمرّد على غيتوات الدولة الغنائمية

الخميس 2019/12/05
زهير هواري لـ"المدن":هذا جيل يتمرّد على غيتوات الدولة الغنائمية
الدولة الغنائمية لم تعد قادرة على تمويل هذه الزعامات
increase حجم الخط decrease
الدكتور زهير هواري، أكاديمي وباحث وروائي، صدرت له أخيراً رواية "الثعلب أشعب"(دار الفارابي)، هو من الناشطين في العمل الاجتماعي والسياسي، واستشاري في لجنة الحوار اللبناني الفلسطيني، وله وجهة نظره في الحراك اللبناني... هنا حوار معه.

- كيف تقرأ الثورة، أو الحراك، وما أدخلته من تعديلات على المشهد السياسي والاجتماعي والثقافي؟ 

* دعني أصف ما حدث بأنه أكبر من حراك وأقل من ثورة. فالحراك قد يكون مرتبطاً بقطاع محدد من القطاعات أو منطقة ما، عمال وفلاحون وموظفون، والثورة هي فعل فكري مخطط ومبرمج، له قواه المؤطرة في تنظيمات ومواقع، وله قواه وبرنامجه المحدد الذي يُعمل بموجبه وصولاً إلى استلام الحكم وإزاحة ما هو قائم من سلطات. وهذه غير متوافرة حتى الآن في انتفاضتنا اللبنانية. بهذا المعنى أعتقد أن التوصيف الأدق هو الانتفاضة التي بدأت على نحو يشابه العفوية، بعدما فاض بها الكيل، فهبت إلى النزول للشوارع والساحات العامة منذ خمسين يوماً وأكثر. بدأت بالاقتصاد وتوسعت إلى السياسة والقضاء وغيرهما. ميزة هذه الانتفاضة أنها تشمل قطاعات واسعة من اللبنانيين، بمن فيها فئات كانت حتى الأمس القريب خارج دائرة التصنيف الذي لطالما اعتمدناه كيساريين واستعملنا في توصيفه تعبيراً شائعاً هو "الفئات الشعبية أو محدودة الدخل". أهمية الانتفاضة أنها جذبت إلى مدارها الأطباء، المهندسين، المحامين، الصناعيين، الحرفيين، والتجار وأرباب مؤسسات أقفلت أو هي مهددة بالاقفال، إلى جانب العمال والموظفين، ومن نقول عنهم أنهم من العمال وصغار الكسَبة. كما أنها تجاوزت منطقة معينة إلى كل المناطق اللبنانية بلا استثناء، مع نسب مشاركة تتفاوت حجماً.

أما التعديلات التي أحدثتها فأبدأها بالمشهد السياسي. لقد باتت معه كل مكونات السلطة متهمة عن حق بأنها قادت البلاد إلى الخراب والإفلاس. ولعل شعار "كلن يعني كلن" هو أصدق تعبير عن التكافل والتضامن بين الأقطاب. لقد إنزوت الطبقة السياسية بمختلف تشكيلاتها، إلى حد ما عن المشهد العام. واحتل الشاشات مواطنون عاديون قدموا مضابط إتهامية مؤثرة عن معاناتهم من نظام المحاصصة السياسي والاقتصادي والاعلامي. كل الذين ظهروا في الشاشات لم يتحدثوا عن وجعهم بوصفه حالات مفردة خاصة بهم فقط، بل بما هو محصلة لمعاناة عامة شملت فئات لم يتسن سماع أنينها قبلاً، أو أنه كان خافتاً إلى حد كبير. وفي المشهد السياسي ألاحظ كما الكثيرين، أن الأمر لم يقتصر على نزع الشرعية من الممسكين بزمام السلطة، ومن كانوا معتبرين أشباه آلهة أو مقدسين أو معصومين، وممثليهم في الحكومة وزراء متصالحين ومختلفين على الصفقات والحصص، بل المجلس النيابي أيضاً بما يوصف بأنه الإطار الأوسع للحياة السياسية ومنح المؤسسات الشرعية. من هنا جاءت المطالبة بإجراء انتخابات مبكرة مسبوقة بإعداد قانون انتخابي تمثيلي، ما يصِم ما جرى من انتخابات بأنها مزورة. والتزوير لا ينحصر في التلاعب بما في داخل صناديق الاقتراع، أو الدولارات التي كانت تدفع لفئات من الناخبين، بل في القوانين التي تجري بموجبها الانتخابات أصلاً، ونحن نعلم أن نسبة المقاطعة في الانتخابات الأخيرة كانت 51%. أيضاً ستترك هذه الانتفاضة بصماتها على الأحزاب من دون شك. فمعظم أحزاب السلطة لجأت إلى "التقية" والصمت ثم البلطجة العارية، بينما إنكفأ بعضها إلى داخله يراجع ما جنته يداه وكيف يدير أموره

أما في المشهد الاجتماعي فقد تميزت الانتفاضة من دون شك بحضور المرأة والفتاة اللبنانية الطاغي، وتجاوزها المطالب النسوية المعتادة إلى المواقف السياسية الضاغطة، إضافة إلى نضالها لكبح محاولات جر البلاد إلى الحرب الأهلية مجدداً. كانت النساء نبض التظاهرات والميادين، وأثبتن أن عزلهن وعُزلتهن عن الحياة السياسية والاجتماعية لم يعد ممكناً بعد الآن، وأن مطالبتهن بالكوتا النسائية في المؤسسات السياسية والإدارية ينطلق من ثقل حضورها في حياتنا المهنية والعلمية والتعليمية والعامة، وهو ثقل بخفة الفراشة ورونقها. أيضاً في الجانب الاجتماعي لاحظت كما سواي إنضواء فئات عليا على اختلاف مكوناتها في صميم الفعل الاحتجاجي. ويبقى بالنسبة لي معبّراً حضور الحركة الطالبية بصخبها، والتي شملت طلاب الجامعات والثانويات والمدارس، وهذا يجب أن يسجل بوضوح بعدما صادرت السلطوية السياسية والتعليمية والإدارية أصوات هذه الشريحة الرئيسية. 

أما على صعيد الثقافة فقد ذوت تلك المنوعات التي طغت على المشهد العام لسنوات، عندما باتت الأنشطة الفنية والاعلامية محصورة في زوجات المسؤولين اللواتي ينظمن المهرجانات وفي حضورهن البرامج الفنية الهابطة. بالطبع لا يمكن القول إن الانتفاضة أنتجت ما تختزنه من أعمال روائية وشعرية وأفلام وغيرها، لكنها على الأقل قدمت المجتمع اللبناني على حقيقته، ما سيتيح للمبدعين لاحقاً أن يغرفوا من هذا المعين. ولعل الإرهاصات الأولى هي التي نجدها على جدران ساحتى الشهداء ورياض الصلح من أعمال ومجسمات وغرافيتي وحروفية، وندوات حوار حول قضايا أساسية كانت خارج نطاق التداول الثقافي. أيضاً تغيرت وظيفة الساحات، التي أرادها مصمموها أن تكون حكراً على ذوي الثراء من شركات وبنوك ومؤسسات، فإذا بها مساحات مفتوحة لكل الناس ومن مختلف الطبقات والمشارب، بمن فيهم باعة القهوة والسجائر والكعك وغيرهم من فئات هامشية. لقد استعاد اللبنانيون هذه المساحات باعتبارها البلد الذي كان يضمهم قبل الحرب الأهلية عام 1975، وعادوا إليها باحتفاليات رائعة في يومياتهم كأماكن تسلية و"سيران"، ثم كانت ذروتها في عرض الاستقلال المدني والشعبي.



- هل ما يجري نوع آخر من الثورات؟ وكيف تقارن تحرك اليوم مع تحركات أخرى حصلت في لبنان؟
 
* لطالما طرحت على نفسي مثل هذا السؤال بالصيغة التالية: هل أن ما قرأنا عنه في الكتب وعشناه من ثورات الجزائر وفيتنام وكوبا وفلسطين ينتسب إلى زمن مضى، وأن ثورة القرن الواحد والعشرين تختلف عما في ذاكرتنا وقراءاتنا بعدما دخلت الانترنت و"فايسبوك" و"واتسآب" وغيرها من وسائل التواصل؟ أم أن هذه مجرد وسائط بينما الجوهر أمر آخر. أعتقد، بالعودة إلى الشطر الثاني من سؤالك، أن انتفاضة اليوم تختلف عن كل ما خبرته من تحركات سابقة كانت تنتسب إلى عالمين مختلفين. عالم التحركات القطاعية لطلاب الجامعة اللبنانية، وغيرها من الجامعات الخاصة أو للطلاب الثانويين، أو للفئات العمالية والفلاحية كعمال معمل غندور ومزارعي التفاح في كفرسلوان والتبغ في الجنوب وأهالي عكار والبقاع والجنوب وغيرهم. هذا نمط عرفته وشاركت فيه كغيري من المخضرمين. أما النمط الثاني فهو الحراك الوطني والعالمي. الوطني دفاعاً عن الجنوب ودعوة إلى تحصينه وبناء الملاجئ فيه، ولعب الجيش اللبناني دوره في الدفاع عنه، وتسليحه وتأمين مقومات صمود شعبه. وعربية ودولية، مثل نصرة ثورة الجزائر، وتأييد عودة الرئيس جمال عبد الناصر عن استقالته بعد العام 1967، ودعم المقاومة الفلسطينية والدفاع عنها، وصولاً إلى مساندة الشعبين الفيتنامي والكوبي والرئيس التشيلي الليندي وغيرها.

صحيح الآن أن القضايا الداخلية أكثر حضوراً على ما عداها، لكن الأصح أن انتفاضة اللبنانيين تنتمي قلباً وقالباً إلى الجيل الثاني من ثورات الربيع العربي، بعدما ذبحت الأنظمة العسكرية والديكتاتوريات الموجة الأولى، باستثناء ما نشهده في تونس من انتقال متدرج نحو الديموقراطية عبر الصراع السياسي والفكري والثقافي. إذن، رغم وزن العامل الداخلي، نحن ننتسب إلى الربيع الجزائري والسوداني والعراقي، كما هم ينتسبون إلى ربيعنا بكل مضامينه.

- ما الذي أثار انتباهك في شعارات الثورة؟ وكيف تفسر هذا الجيل الغاضب الخارج على الغيتوات الطائفية والزعامات التي اعتدناها منذ سنوات؟
 
* لا شك أن الانتفاضة عبّرت في شعاراتها عن توق اللبنانيين لأن يكون لهم وطن حقيقي يليق بهم، ويتماشى مع التقدم الذي حازوه منذ نهضتهم التربوية والتعليمية وثقافتهم التي نشروا صفحاتها وراياتها في البلاد العربية والمهجر. كانت المفارقة أن تقدمهم في مختلف الميادين، وانفتاحهم على الثقافة العالمية، يصطدم بجدران من الكلس التي يبنيها النظام السياسي حول بلادهم، ويكبل عبرها طموحهم، بل حياتهم من المهد إلى اللحد. استطيع أن أفهم الشعارات المرفوعة، وفي مقدمها النشيد الوطني والعلم اللبناني في كل الساحات، سواء حمله حزبيون أو مواطنون عاديون لا ينتمون إلى جماعة سياسية، بأنه تعبير عن الطموح إلى بناء وطن جامع وليس مزرعة أو اقطاعة. أعتقد أن اللبنانيين بحثوا عن شعار يجمعهم فلم يجدوا سواه يعبر عن كيانهم وكينونتهم كمواطنين، وليسوا أبناء 18 طائفة تتنازع دوماً في ما بينها، بينما هم يريدون وطناً يتسع لهم جميعاً بما فيه خلافاتهم من دون تخوين أو إتهامات، ويستطيع كل منهم أن يعبر عن فرديته بالاستقلال عن المذهب الذي وُلد وتربّى عليه. أجد أن علمانية المجتمع ومساواة نسائه مع رجاله، ومنظومات الحقوق التي يجب أن يتمتع بها الانسان على هذه الارض كانت حاضرة بعمق حتى في منوعات الشتائم التي ابتدعها المنتفضون. من جانبي أجد أن من حق هذا الجيل، الذي لم نكن نفيه حقه، أن يعبّر عن غضبه من هذه "التفليسة" التي صارت إليها البلاد على أيدي هذه الطبقة، وأن يتمرد على الغيتوات الطائفية التي "زربه" فيها السياسيون الطائفيون، وجعلوا من الآخر الجار والقريب وابن الوطن مشروع عدو يجب الاستعداد والتهيوء لقتاله، لأنه لا يضمر سوى الشر للطائفة بكل مكوناتها. لقد عرّت ساحات طرابلس وصور والنبطية والهرمل وبعلبك وعرسال وزحلة وصيدا وبيروت وجل الديب وزوق مكايل والرينغ وغيرها الكثير من المدن والبلدات، بضاعة التحريض المذهبي، كما أثبتت نساء شارع مونو – الخندق الغميق وعين الرمانة – الشياح وغيرهن وغيرهم، أن المجتمع اللبناني يملك حيوية في الوقوف في مواجهة حرف الانتفاضة عن مسارها السلمي إلى مهاوي العنف. وقد تبين للجميع، نساءً ورجالاً وأطفالاً، أن الطائفية ليست سوى غطاء لتحكم فئات تتحلق حول تلك الزعامات في علاقات زبائنية رخيصة، وقد آن أوان إرغامها على تقديم تنازلات حقيقية كمقدمة لرحيلها عن السلطة، ووقف مسلسل الانتهاكات التي تمارسها على الانسان والبيئة والمستقبل.

- هل أفلس نظام الفساد حتى وجدنا جمهوره يتمرد عليه؟  

* لا أريد أن استبق الأمور، والافلاس أصاب البلاد جراء تحويل الدولة إلى "منهبة" بين أقطاب الطبقة السياسية تبعاً لتوازنات القوى بين مكوناتها. نحن نعيش أكثر من مجرد حال الفساد الشائعة عالمياً. وما لدينا في لبنان أكبر وأوسع من الفساد، هناك سلطة جعلت من الدولة "دولة غنائمية" كما يصفها الصديق أديب نعمة. والغنيمة توزع على الزعيم أولاً بأكثر مما كان يحصل عليه في العصور الغابرة شيخ القبيلة أو قائد الغزوة، ومقداره الربع أو الخمس، والباقي للخيالة والمشاة تبعاً لكبر أو صغر المغنم. الآن شح حليب البقرة، ولم يعد في ضرعها ما تجود به، عمل هؤلاء على تحويل أموالهم نحو الخارج لغسل أيديهم من جريمة نهبهم لمقدراتها طوال عقود متلاحقة. الطبقة السياسية الحاكمة ما زالت تتصرف وكأن النظام باق إلى الأبد، وأن شيئاً ما لم يحدث طوال هذه الأيام والأسابيع. إفلاس النظام شيء وسقوطه شيء آخر. إذ المؤسف أن القوى التي تستطيع قيادة مشروع تغيير النظام الطائفي واقتلاعه من جذوره وبناء الدولة الديموقراطية العلمانية مبعثرة الصفوف إلى حد بعيد. ثم إن الكثير من الأسلحة ما زال بحوزة هذه الطبقة، بما فيه تعريض البلاد والناس لامتحان نسخة متجددة من الفوضى الأمنية أو الحروب الأهلية. أصلاً الحرب الأهلية العام 1975 كانت في جانب منها تعبر عن رفض الاصلاح وتقديم تنازلات تضمن بقاء نظام الهيمنة السياسية مع تعديلات عليه. ثم دخل العامل الفلسطيني على خط انسداد شرايين النظام، فانفجر القتال الذي قرره اليمين واستسهله اليسار، لتؤدي النتائج إلى هزيمتيهما معاً، ونجاح نظام الرئيس حافظ الأسد في فرض وصايته على البلاد، تتبعه القوى الميليشاوية الطائفية التي تسلمت ما تبقى من أجهزة ومؤسسات الدولة بعد اتفاق الطائف.

بالتأكيد جزء من جمهور زعماء الطوائف تمرد عليهم، لكن قوى وازنة ما زالت جاهزة لافتداء كل واحد منهم بالروح والدم. لذا أعتقد أن مسار التغيير طويل ومتعرج ومليء بالعقبات نتيجة تعقيدات الوضع اللبناني من جهة، وتداخل وتدخل القوى الإقليمية والدولية في شؤونه من جهة ثانية. لكن ما بات واضحاً هو أن الدولة الغنائمية لم تعد قادرة على تمويل بقاء واستمرار هذه الزعامات والحلقات المحيطة بها. لذلك سنجد مزيداً من الانفكاك، مقابل المزيد من الاستقطاب لصالح نشوء وتبلور قوى مشروع ديموقراطي علماني يستطيع صياغة برامج موحَدة وموحِدة للبنانيين على اختلاف منابتهم وميولهم وطوائفهم، وهذا ما يجب الانخراط في العمل عليه من جميع المؤمنين بقدرة وطنهم على النهوض وبناء مستقبلهم كمواطنين لهم حقوق وعليهم واجبات على أرض بلادهم التي لا بد من استعادتها واحة للحريات والديموقراطية والتنوع الثقافي والاجتماعي.  
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها