الخميس 2019/12/05

آخر تحديث: 19:09 (بيروت)

المصارف: سقوف جديدة

الخميس 2019/12/05
المصارف: سقوف جديدة
قوى الأمن تفتح الطريق أمام جمعية المصارف بالقوة (علي علوش)
increase حجم الخط decrease
اللبنانيون يتسوّلون رواتبهم. يخضعون لأكبر عملية سطو موصوفة في تاريخ لبنان، إن لم يكن في تاريخ العالم الحديث. فحتى لو كان كل شيء بخير في جمهورية علي بابا – ولا يمكن أن يكون شيء بخير حين يُقبض على معاشات الناس هكذا – تكفي هذه المسألة وحدها لنشوب ثورة تحرق الأخضر واليابس. هي رواتبنا، الحسابات الجارية. ليست حتى الودائع الصغيرة والمتوسطة، رغم أن هذه الأخيرة تستحق الحماية برموش العيون. هذه إجراءات لم تطبّق في معظم الدول التي شهدت أزمات مماثلة، إلا بعد زمن، سنوات. وحتى عندما طُبّقت، أتت مترافقة مع إصلاحات عميقة وفعلية. وأُعلِنت للناس، بكثير من الوضوح والشفافية، موجباتها وارتباطاتها بالمصلحة العامة ومدتها الزمنية. والثقة في التعهدات بأن ودائع الناس لن تُمسّ، انبثقت عن ضمانات فعلية ورقابة حديدية على أداء السلطات، بل واستُفتِي الناس في كل إجراء قبل اتخاذه! 


أما اللبنانيون فيُقرّعهم موظفو البنوك كما الأطفال الذين يتلقون مصروفهم من أب نذل. التطمينات تُقلق أكثر مما تهدّئ. الوعود بحماية ودائعهم، حين تصدر عن قوة احتلال، تصبح أشبه بالوعيد، أصلاً أفرغها سعر الصرف من نصف مضمونها. الودائع الكبيرة في جِنان آمنة في الخارج، خلافاً للقانون، بل ببلطجة على القانون. ولمن سيذهب واحدنا؟ فليضرب رأسه بأقرب حائط. لكنها رواتبنا! قوتنا اليومي، الخبز، الوقود، المدارس، الإيجار، التدفئة والمياه، الهاتف والكهرباء..

الكهرباء التي إستدعى النائب العام المالي، القاضي علي إبراهيم، عدداً كبيراً من الأفراد وأصحاب الشركات للإستماع الى إفاداتهم حول تمنعهم عن سداد فواتيرها بدعوى "تكبيد خزينة الدولة الكثير من الخسائر وحرمان شركة الكهرباء من مستحقاتها المادية". فالآن يحاسبون المتمنّعين. في هذه الأزمة، وقبل إنتاج فعلي للكهرباء يفي حاجات الناس، وعندما تُشهر ثورة المنكوبين سلاح العصيان المدني. لم يتحرك حراس الخزينة، حينما تُركنا جميعاً فرائس – بل بطّات رابخات في مرمى أصحاب المولدات الذين بدأوا عصابات، وصاروا مافيات منظّمة برعاية كارتيلات السلطة ذارفة الدموع على عائلات تعتاش على الشرخ العفِن بين حاجاتنا الأولية وفشل الدولة وفسادها. وكأن كسر القانون وبداهة حماية المواطنين من الاستغلال، يُصرَفان في خانة "حرام عندهم عائلات"، الذي لو طبّق على كل المخلّين والمجرمين لخلَت السجون وفرغت قاعات المحاكم. وكأن مشاريع ومشاريع للنهوض بقطاع الكهرباء لم تُفشلها المحاصصات. حتى المشروع المُسوَّق له اليوم، معروف أن إطاره القانوني يقوّض دور مؤسسات الدولة الرئيسية ويسمح بتسييس عمليّة المناقصة.

تحتجز المصارف ما تبقى لنا للبقاء على قيد الحياة، ولو من قلّة الموت. والموت ما عاد قليلاً. الناس ينتحرون في عهد ميشال عون الذي صدر طابع جديد بخمسة آلاف ليرة ويحمل صورته، فيما لم يجد ناجي فليطي في جيبه ألف ليرة يعطيها لابنته، فانتحر، ومن بعده داني أبي حيدر وأنطونيو طنوس. ثلاثة انتحارات خلال أقل من أسبوع، يا سلطة العار. ولا تعويل على نقطة دم حارة في شرايينكم، فدمُنا الذي تشربونه يذهب إلى بطون بلا قاع.

واللبنانيون أيضاً يُشرّدون في أرضهم. يُطردون من بيوتهم بعد تعثّر في سداد الإيجارات. هذه تَعرِض كِليتَها للبيع. وهؤلاء يحرقون أجسادهم، وإن لم يفلحوا، عاودوا المحاولة من جديد. فلا شيء يوقف هذا العذاب والذل والفزع، إلا العبور إلى العَدَم. آلاف يتقاضون أنصاف رواتب، وأنصاف الرواتب صارت، بفعل تدهور الليرة، أرباع رواتب. داني أبي حيدر واحد منهم. نصف راتب، وفي بيته، مع أولاده الثلاثة، أهله المطرودون من شقتهم. داني قتل نفسه ببندقية صيد، برصاصة عصفور. أضعف من عصفور هو، والسرب كله يحوم حائراً في سماء ضيقة، تحته أرض بور، وهِجرَتُه باحتمالات اليانصيب. والصياد لا يكتفي ولا يكلّ ولا يرتدع. مدجج هو بكلابه وذخيرته وجِلده السميك.

الصياد، ليس عن عبث...
أصدرت الحكومة، بين 17 تشرين الأوّل، و20 تشرين الثاني الجاري، 73 ترخيصاً، وهي أكثر من نصف إجمالي التراخيص الممنوحة قبل انطلاق الاحتجاجات، بحسب "المركز اللبناني للدراسات". من بين هذه التراخيص، 68 ترخيصاً صدرت بعد استقالة رئيس الحكومة، غالبيتها مُنِحَت لمؤسسات صغيرة ومتوسطة، وتحديداً لمؤسسات تجارية معنية بتجارة أسلحة الصيد والذخائر. وصدر 24 مرسوم تجنيس، خلال الفترة المشار إليها، مقابل 27 مثلها قبل استقالة الحكومة.

السلطة تستعد، إذن، لكن لأي موسم؟ لأي فوضى؟ تطيير رؤوس اللبنانيين؟ جنى أعمارهم؟ خياراتهم، في الانتخابات، وقبلها، وبعدها.

المصارف تُشبّح الآن علينا. تُلام الثورة. لكن من ضمن 1,567 نصاً تشريعياً صدر في الجريدة الرسمية، بين 21 شباط و31 تشرين الأوّل 2019، اتخذت الحكومة اللبنانية 1,354 تدبيراً إدارياً. واحزروا أياً من التدابير الإدارية حظي بالنسبة الأعلى من الإنجاز؟ طلبات التجنيس، بنسبة 25%. بديهي أنها ليست طلبات تجنيس لأولاد لبنانيات، ولا لمقيمين عاشوا عمراً في لبنان، فأعطوه وأعطاهم، ولم يعرفوا غيره وطناً، واستحقوا جنسيته أسوة باللبنانيين "المنتشرين" في أنحاء أوروبا وأميركا. بل هي الجنسية – العباءة التي يُلبسها جبران باسيل لمن يريد من "مانوكانات" طائفته وانتخاباته.

تُلام الثورة، وتتناسى السلطة أن قانون موازنة 2019، تم تمريره بعد سبعة أشهر على المهلة الدستورية وبعد انقضاء نصف سنة، الأمر الذي جعله غير فعّال. تتجاهل إخفاق القانون في تقديم أيّ إصلاحات هيكلية لمعالجة التحديات المالية العميقة التي يواجهها لبنان، وأنه أظهر تقديراً مفرطاً في التفاؤل للعجز المالي. بل يُجهّل الجزء المفتعل من هذه الأزمة، كما الجزء الذي تسبب به مَن هم في قلب السلطة وخارج النظام المصرفي الرسمي.

المصارف تَنهَبُنا، بتهذيب أصفر وربطة عنق. ببطء سفّاح يُدحرج الجثث إلى حيث لا أسفل منظوراً. إعلاناتها الوقحة ما زالت تحتل القسم الأكبر من الفواصل التلفزيونية. المصارف تأكلنا أحياء، وتصدر تعميمات، لا نعرف إن كانت لنكش أسنانها، أم لكسب الوقت ريثما يرسو صراع الآلهة على نتيجة.

جميعنا تربَّى على الخوف من الغد، على تأمينه منذ الراتب الأول. كبرنا ونحن نراقب أهلنا يدخّرون ما استطاعوا، يحرموننا وإياهم بعضاً من "ترف" اليوم كُرمى لأمان المستقبل، أي أمان ممكن. ورثنا حكمتهم الوحيدة تلك، في مواجهة الرعب من شيخوخة ومرض وبطالة، لا تدرأ مصائبها الدولةُ التي نقبل أن ندفع لها الضرائب مثل الخُوَّات. حتى تعويض نهاية الخدمة من "الضمان الاجتماعي"، الذي ننفق أعمارنا المهنية في انتظاره، وعيوننا على ساعة السنوات لحظة تدق الرقم 20، نرتضي دفع "الإكراميات" لتحصيله. وبعدما حاولنا تحصين حيواتنا الهشة، بكُفرِنا بكل شيء، فاتنا ألا نؤمن بمصارف مربوطة مصارينها بمصارين هذه الدولة نفسها. وقعنا في فخ الخرافات القاتل: خرافة أن دَيْن لبنان داخلي، وهذا مُطَمئن. أن النظام المصرفي لم تهزّه حتى 15 سنة من الحرب الأهلية. خرافة المدماك الحقيقي الوحيد في البلد، والذي لطالما استقطب المودعين العرب، ولن يغامر بسلامته حتى أعتى لصوص النظام اللبناني. خرافة أن المدّخرات في البنك، بفوائدها التي لا مثيل لها حولنا، ستكون خشبتنا الوحيدة إن أسقَطَتنا أعاصير الحياة.

وغفلنا، أو أُغفِلنا، عن أن أموالنا هي الدَّيْن، والدَّين لدولة لا تُنتج إلا الفساد، ولا تُنفق إلا الهدر، ولا تُحاسِب إلا من يحاول محاسبتها. وغفلنا وأُغفلنا عن أن الدائنين هم المصرفيون الذين، إن مُسَّت أرباحهم – قبل أصولهم – سيغرسون أنيابهم في لحومنا، ولن يخرج من يوقفهم. وسهَونا عن أن لبنان ليس أي شيء. ليس ليبرالياً، ولا دولة راعية. ليس رأسمالياً أو اشتراكياً، أو أي خليط منطقي من أيّ من تلك الأنظمة. غفلنا عن أن النظام اللبناني.. لبناني. وغداً، تُرتقب سقوف جديدة تفرضها المصارف على تعبنا المُعتقل.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها