الثلاثاء 2019/12/03

آخر تحديث: 14:30 (بيروت)

الحرية تقود الشعب

الثلاثاء 2019/12/03
increase حجم الخط decrease
جذبت "ثورة 17 تشرين" العديد من أهل الفن والأدب، ومنهم رسام الكاريكاتير عماد حجاج الذي استعاد في تصويره لهذا الحراك الشعبي، لوحة فرنسية ذائعة الصيت تُعرف بـ"الحرية تقود الشعب". أنجز الفنان الفرنسي، أوجين دولاكروا، هذه اللوحة الكبيرة إثر اندلاع ثورة تموز/يوليو 1830، وانقسمت الآراء في تقييمها عند عرضها العام التالي، غير أن هذا الانقسام لم يحدّ من انطلاقها سريعاً نحو الشهرة الواسعة، فدخلت متحف اللوفر في 1874، وتحوّلت إلى أيقونة عالمية كما تشهد الأعمال الفنية العديدة التي تستوحي تأليفها بأشكال لا تحصى.

في تموز/يوليو 1830، شهدت باريس، الثورة الفرنسية الثانية، بعد الثورة الأولى في 1789، وذلك حين سعى الملك شارل العاشر إلى لجم النواب الليبيراليين من خلال فرض قوانين جديدة أعلنها رسمياً في 25 تموز. انطلقت هذه الثورة يوم 27 تموز، واحتدمت في ثلاثة أيام، فعُرفت باسم "الثلاثة المجيدة". خلال هذه الأيام الثلاث، نزل الشعب إلى شوارع باريس، وأعلن العصيان المدني، ودخل في مواجهة حامية مع القوى العسكرية التي قادها المشير أوغست دو مارمون. أدّت هذه المواجهة الدامية إلى سقوط زهاء 200 جندي و800 من الثوار، وانتهت بإطاحة شارل العاشر، وصعود ابن عمه لويس فيليب الأول أوليان إلى العرش.

شرع دولاكروا في رسم لوحة كبيرة تصوّر هذه الثورة في تشرين الأول/أكتوبر، وأتمّها في كانون الأول/ديسمبر، وعرضها في "الصالون الكبير" في أيار/مايو 1831 تحت عنوان "متراس 28 تموز"، وانتقدها أنصار الفن الأكاديمي الكلاسيكي بشدة، فيما تحدّث عنها من منظور أدبي العديد من كبار كتّاب ذلك العصر. اقتنت الحكومة هذه اللوحة لعرضها في "المتحف الملكي" المقام في قصر لوكسمبورغ، غير أنها سارعت إلى حجبها، خوفاً من إثارة الانتفاضات كما يبدو، فاحتفظ بها دولاكروا لبضع سنوات، لكن الدولة عادت واستعادتها وأدخلتها إلى قصر لوكسمبورغ في 1863، ثم إلى متحف اللوفر في 1874. وباتت "الحرية تقود الشعب" منذ ذلك التاريخ منارة من منارات الفن في العالم أجمع.

صوّر دولاكروا انتفاضة باريس، ضد حكم أسرة بوربون المتمثّلة بالملك شارل العاشر، وجعل الشخصية المحورية في اللوحة الثورة نفسها، وقد رسمها على طريقة الأقدمين، أي في هيئة امرأة فارعة الطول تنتصب حافية القدمين، وجعل رداءها ينزلق عن صدرها كاشفاً ثدييها العاريين. أستعاد الرسام نموذجاً متوارثاً، وأعطى هذه المرأة التي تجسّد الحرية، هوية فرنسية معاصرة، فألبسها القبعة الحمراء الخاصة بثوار 1789، وجعلها تقبض في يدها اليسرى على بندقية ذات حربة من طراز 1816، وترفع بيدها اليمنى نحو الأعلى راية الجمهورية الفرنسية ذات الألوان الثلاثة: الأزرق والأبيض والأحمر. في طرف الأفق الممتد خلف الردم، تظهر أبراج كاتدرائية "نوتردام"، أي "سيّدة باريس"، في إشارة واضحة إلى مكان الحدث. وفي الواجهة، يتقدم جمهور الثوار فتى يرفع مسدسين من جهة، ورجل يقبض بيديه على بندقية من الجهة المقابلة. في القسم الأسفل من التأليف، تظهر ثلاثة جثث رجال ملقاة أرضاً، منها جثة عارية تستعيد نموذجاً كلاسيكياً يمثّل مقتل هيكتور ابن ملك طروادة على يد آخيل في إلياذة هوميروس. في الخلاصة، جمع ديلاكروا بين الرمز والواقع، وجعل من هذا الجمع صورة لكافة شرائح المجتمع المحلّي كما تشهد عناصر الألبسة التي يرتديها رجال الثورة.

صوّر العديد من الرسامين الفرنسيين ثورة "الثلاثة المجيدة" في لوحات زيتية، غير أن هذه اللوحات لم تتجاوز الحدث التاريخي، ولم تنل أي شهرة في الميدان التشكيلي الفني، رغم نجاحها الظرفي في زمن حكم لويس فيليب الأول أوليان. على العكس، هاجم معظم النقاد لوحة دولاكروا لخروجها على نواميس المذهب الأكاديمي، غير أنها صمدت، وخرجت من الظل، وتحوّلت سريعاً إلى أيقونة بلغت شهرتها الآفاق في القرن التالي حيث باتت أشهر عمل فني يعبّر عن الحريّة التي تقود الشعوب في كل زمن وفي كل مكان.

كان دولاكروا من أعلام المدرسة الرومنطيقية، ولا نجد في نتاجه أعمالاً ذات بعد سياسي واضح. قبل "متراس 28 تموز"، أنجز الفنان في 1928 لوحة زيتية عنوانها "اليونان على أنقاض ميسّولونغي"، وفيها تظهر امرأة بالزي اليوناني التقليدي على أنقاض الدمار، فاتحةً يديها في حركة تعبّر عن الاستسلام، فيما يقف من خلفها محارب شرقي الملامح واللباس يمثّل الغازي المنتصر. تجسّد هذه الزيتية سقوط اليونان أمام الأتراك إثر المواجهة التي وقعت في منطقة ميسّولونغي في نهاية شهر نيسان من ذلك العام، وقد تردد صدى هذا السقوط في أوروبا، وأعتبره أنصار الروح الهلّينية نكبة من النكبات الكبيرة في زمنهم. جعل دولاكروا من اليونان امرأة متبعا تقليدا شاع قديما في الحقبة الرومانية، واستعاد هذا النهج ثانية في"متراس 28 تموز" حيث جعل من فرنسا الحرة امرأة ترفع راية الجمهورية.

على الصعيد التشكيلي البحت، خرج الفنان على القوالب الأكاديمية التي التزم بها معاصروه في تصوير هذه الثورة، وابتدع تأليفاً خاصاً، ونقل هول الحدث في الجزء الأسفل من لوحته. من جهة أخرى، أهتم دولاكروا بقضية أخرى هي قضية اللون وعلاقته بالضوء، وهي القضية التي شغلته طوال مسيرته الفنية، فكسر القاعدة الكلاسيكية التي تفصل بين الرسم واللون، وحاول أن يجعل من اللون أساساً للرسم، ممهّداً بذلك للثورة الانطباعية، أولى مدارس الحداثة التشكيلية. وقد ظهر هذا النمط بشكل جلي في القسم الأعلى من اللوحة، كما في تصوير العديد من تفاصيلها.

محليا، تحوّلت "الحرية تقود الشعب" إلى مثال فني منذ دخولها إلى متحف اللوفر، كما تشهد العديد من الرسوم الصحافية التي تعود إلى هذه الحقبة. ولم يفقد هذا المثال شيئاً من جاذبيته الأولى، كما تشهد الأعمال العديدة التي تستمدّ تأليفها على مدى عقود من الزمن. من هذه الأعمال، نذكر عملاً من توقيع رسام الكاريكاتير الشهير "بلانتو"، يحمل شعار "أنا شارلي"، وهو الشعار الذي رفعه أنصار حرية التعبير إثر الهجوم الإرهابي الذي تعرّضت له مجلة "شارلي إيبدو" في مقرّها، مطلع العام 2015. كما نذكر جدارية من طراز الغرافيتي تحيي انتفاضة السترات الصفر التي لم تجد خاتمتها بعد.

من جهة أخرى، تخطّت "الحرية تقود الشعب"، باكراً، الحدود الفرنسية، ووصلت إلى تركيا في زمن نشوء الجهورية الفنية حيث اقتبس الفنان زكي فايق تأليفها في زيتية من نتاج 1933 تمجّد "الانقلاب" الذي قاده أتاتورك. كما في العالم التركي، ظلّت اللوحة الفرنسية حيّة في الخيال الجماعي العربي، وسطعت في السنوات الأخيرة في العديد من الأعمال التي تحيي انتفاضات "الربيع العربي"، فظهرت وهي تحمل رايات الدول التي شهدت هذا الربيع الذي لم يكتمل.

تعود "الحرية تقود الشعب" اليوم في رسم عماد حجاج، وتظهر في هيئة صبية في لباس معاصر ترفع بيدها اليمنى راية لبنان، وتحمل بيدها اليسرى عصا تحمل شعار "الشعب يريد إسقاط النظام".
 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها