الثلاثاء 2019/12/03

آخر تحديث: 13:41 (بيروت)

شائعة ثورية: "قتل الأب، تحيا الأم"

الثلاثاء 2019/12/03
شائعة ثورية: "قتل الأب، تحيا الأم"
اعتصام الامهات في عين الرمانة الشياح (ريشار سمور)
increase حجم الخط decrease

* إلى ناجي الفليطي
ثمة إشاعة على شكل خطاب تدور حول الثورة في لبنان، عامدةً إلى "أودبتها" (نسبة إلى عقدة أوديب)، بحيث تتأرجح بين مقولة "قتل الأب" من جهة، ومقولة "تحيا الأم" من جهة أخرى. فما أن تثبت أن الثورة هي إطاحة الأبوية، حتى تقدم، وبالتوازي مع هذا، إلى الرفع من شأن الأمومية، والتوازي هنا لا يعني أن فعليها منفصلين، بل، وعلى العكس، هما يرتبطان من ناحية أن الأول ينتج الثاني، القضاء على "الأب" يفضي إلى التمسك بـ"الأم". وعلى هذا النحو، يلح سؤالٌ حول سبب الارتباط، أو بالأحرى سبب الإفضاء: كيف يفضي "قتل الأب" إلى "تحيا الأم"؟

لا يمكن طرح هذا السؤال بدايةً بلا الوقوف على الأب الذي تتحدث عنه تلك الاشاعة. فغالباً ما تبدو أنها لا تدركه على ما هو عليه في الحاضر، إنما تستدعي صورة من ماضيه الآفل. فالأب القديم هو الأب الذي كان، وباختصار وتبسيط طبعاً، يصون ويحافظ على عادات وتقاليد الإجتماع، ناقلاً اياها إلى أولاده وناقلاً إياهم إليها بمنعهم عما يجد أنه يعاكسها أو يشوبها أو ينفيها. على أن هذا الاجتماع، وفي وضعه اللبناني، دمرته الحرب، ومن بعدها، تقدم على أساس أنه ترمم. لكنه لم يكن كذلك، بل بقي اجتماعاً رميمياً، مفتتاً، "مبقعاً"، وهذا ما جعل النيوليبرالية تمكث فيه كملاذ لها.

في هذا المطاف، انهار موقع الأب، وحين كان التلفزيون، ببرمجته الدرامية، يحاول استحضاره من السابق على حطامه، كان يقع في الكاريكاتورية. أما لاحقاً -وهذه تأريخة عاجلة بالتأكيد- فكل هذه الكاريكاتورية تجسدت في "بيّ الكل". لكن أبوة النظام الكاريكاتورية هذه، هي في حد ذاتها خطيرة، بحيث أن الأب الذي تولده ليشغلها يحاول مزاولتها، يحاول الانطلاق من موقعه، لكنه دائماً في درب مسدود، وعندها لا يجد مناصاً من الدفاع عن تلك الأبوة، وعن كونها ليست باطلة تحديداً، سوى بالقوة، سوى بالأبوية.

لقد علمتنا النسوية الثورية ذلك، بحيث تشير باستمرار إلى أن الأبوية تلك هي أبوة متلاشية، اي سلطة بلا سلطة، ولهذا، تحمل على تحققها كقوة خالصة. فالأب القوي، الأبوي، هو، في الأساس، الذي لا يستطيع أن يكون أباً، الذي ذهبت أبوته مع الريح، وما بقي منها كان دوراً مع صورة، يعملان لوقت قصير قبل أن يتعطلا، أو يتكشفا عن تعطلهما.

بهذا، تطبيق مقولة "قتل الأب" حيال الأب الذي يشغل تلك الأبوة، لا تعني سوى "قتل" الأب الذي ليس أباً، لا تعني سوى درء اللا-أب. وبالتالي، هي "قتل" لما هو غير موجود، كأب، لما يستمد وجوده، رسوخه، من هذا "القتل"، كمحض قوة.

على أن أبوية كهذه، لا داعي للقول أن الأمومة المقترنة بها هي أمومية، أي أمومة مشتدة، واشتدادها بمثابة مقاومة لها، مثلما أنها أثر من آثار انهيارها كأبوة. في هذه الجهة، وحين تطلق تلك الإشاعة مقولة "تحيا الأم" هي لا تفعل سوى التأكيد على الحاصل، مثلما أنها تتجنب الإشارة إلى أن الأم التي تحييها، لم تخرج في الثورة سوى من أمومتها تلك. وهي، فعلياً، لم تنتظر هذه الثورة، بل كانت قد خرجت من قبلها أيضاً، وتظاهرات الحق فيمنح  الجنسية والعنف الأسري شاهدة. فالأمهات في ثورتهن يخرجن على تلك الأمومة، لا لكي يبقين أمهات، ثم تأتي إشاعة، وتعمد إلى تأبيدهن. إنما لكي يصرن بعد موقعهن ووضعهن، بعد كونهن أمهات.

على هذا النحو، الإشاعة إياها هي إشاعة محافظة. فبمقولة "قتل الأب"، وبدلاً من أن تحمل على الخروج على الأبوية ومنها، تمد الأبوية الكاريكاتورية بطاقة. كما أنها، وبمقولة "تحيا الأم"، تبقي النساء في أمومتهن المشتدة، فتعيد مَعيَرتهن بها في حين خروجهن منها. ونتيجة ذلك، ترسخ المعادلة ذاتها: الأبوية القوية تنتج الأمومية، الأمومة المشتدة.

في الواقع، تلك الاشاعة لا تريد من "قتل الأب" الا "إحياء الأم"، لا تريد من مد الأبوية بالطاقة، سوى تكريس الأمومية. لكن، لماذا؟ من أجل ترسيخ نظام المعادلة المذكورة، وهذا النظام تشغل فيه الدولة موقع الأبوية، والميديا موقع الأمومية، والأبناء مطلقو الإشاعة، يتأرجحون بين التعلق بالثانية، والمطالبة بالأولى على أساس أنها ليست موجودة -وهذا ليس دقيقاً بالطبع- في لحظات معينة، وهي لحظات التذنب من كونهم يجهدون في الحلول مكانها.

التعلق بالأمومية، بما هي ميديا، يعني العيش تحت عيونها، في رجائها، والاقلاع عن مغادرتها، لدرجة تقديم الثورة لكي توافقها: ثورة-حب، وثورة-دفء، وثورة-حنان، وثورة إيجابية، وثورة فردوسية، بحيث تنتج فاعلها المهووس بأن يكون صاحب موضع نجومي، أن يكون محط أنظار، متأرجحاً بين الإيغو - إيغو "أنا ذكي وقوي، أنا أب". وبين الإكتئاب - اكتئاب "لا شيء يحصل، وإن حصل، فلكي يذهب إلى نهايته". وبينهما الريبة - ريبة "الجميع يراقبني، أظهر واختبئ". وهكذا، تكون الثورة ضرباً من الاستعراض المتواصل، الذي يدور بلا أي صلة بها.

لا تؤدي الاشاعة سوى إلى جعل الثورة شحناً للأبوية، وتعلقاً بالأمومية. وبهذا، تستكمل معادلة نظامية: بعد إنتاج الابوية للأمومة المشتدة، تنتج هذه الأمومة المشتدة بدورها الأبوية اياها.

فتستدعيها بعد مضاعفتها، وحينها قد تُدعى الجيش، أو تُدعى "حزب الله". وخلال ذلك، هناك أبناء كثر يظنون أنهم "آباء"، من قبيل "الأب" الذين أرادوا "قتله". وبهذا الظن، يتحولون إلى كاريكاتور الكاريكاتور.

فلتسقط عائلية النظام هذه بأبويتها وأموميتها على حد سواء!
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها