الجمعة 2019/12/20

آخر تحديث: 18:04 (بيروت)

البروفيسور

الجمعة 2019/12/20
البروفيسور
حسان دياب في القصر الجمهوري بعد التكليف (عباس سلمان)
increase حجم الخط decrease
يمكن القول، بأريحية كبيرة، إن أي مسؤول في تاريخ الجمهورية اللبنانية، أو لنقُل في التاريخ السياسي اللبناني لوسائل التواصل الاجتماعي، لم يحظَ بهذا الكمّ من السخرية الذي ناله رئيس الحكومة المكلّف، البروفيسور حسان دياب، خلال أقل من يومين.


ساد تهكّم كثير، مؤخراً، على حركة "أمل"، لا سيما بعد هتافهم المدهش "تشي غيفارا حرامي" في وجه ثوار بلدة كفررمان الجنوبية الملقّبة بـ"كفر موسكو" لكثرة الشيوعيين فيها. والنكات "الأمليّة" كثيرة، وإن ظللتها بالظلمة هجومات البلطجة المتكررة لـ"أمل" و"حزب الله" على ساحات الثورة، تعود لتطفو على السطح من حين إلى آخر. وفي النهاية هو جمهور، والجمهور ولّاد حكايات... ومع ذلك تفوّق عليه البروفيسور.

وساد تهكّم كثير أيضاً على جبران باسيل في مناسبات عديدة، منذ أن اعتلى حماراً في عيد الشعانين، قبل سنوات، تيمناً بالمسيح، وصولاً إلى مخاطبتّه أمه خلال كلمته في بعبدا يوم تظاهرة "دعم الرئيس". ومعه، ومن قبله ومن بعده، نال العونيون نصيباً وافراً من الفكفكة الساخرة، وأحياناً الاحتقارية، لخطاب عبادة الشخص، والإحساس بفائض الفضيلة والحق والحزم، أسوة بفائض القوة المليشياوية لـ"حزب الله". في حين أن هذا الأخير قد يثير مشاعر وردود أفعال لا تُحصى، من الغضب إلى النعرات الطائفية والثأرية والخوف وحتى الكراهة، بيد أن الضحك يبقى في أدنى سلّمه.

ومُني سياسيون ورؤساء وزعماء كثر، من وليد جنبلاط إلى فؤاد السنيورة وسليمان فرنجية وعمر كرامي وحتى ميشال عون.. قسطاً وافياً من الضحك والتقليد، مرفقَين بالاتهامات والتهشيم. إنما ظلّت لهم شخصياتهم المعتبرة، مع الفوارق في نِسب الاعتبار بين اسم وآخر. وللأمانة، حتى شخصيات من قبيل نديم الجميل وميشال معوض وكمال شاتيلا وجيلبرت زوين وإميل لحود وكارلوس إده وغيرهم، لم يراكموا، طوال سنوات، ما راكمه حسان دياب، خلال أقل من 48 ساعة، من نكات مجبولة بالفضائح والترهات التي تفوّه بها هو شخصياً، أو كتبها أو ضمّنها سيرته الذاتية وموقعه الإلكتروني. ربما لأن هؤلاء، مهما فعلوا وقالوا وكتبوا، لن تسعهم منافسة ذلك الكنز من التفاهة واللاشيء.

وعلى هامش شحنة التسلية المريرة، والبَليّة المضحكة، التي عبّ منها اللبنانيون مؤخراً، لعل ثمة ما يقال في معنى هذا الكاريكاتور الحيّ – إن كان له من معنى – في دلالاته على السلطة وثورة 17 تشرين معاً.

فتكليف البروفيسور حسان دياب برئاسة الحكومة، بعد أكثر من شهرين على انتفاضة الشعب اللبناني في الشوارع والساحات، يقول بلسان التيار العَوني و"أمل" و"حزب الله": بما أن سعد الحريري خاننا، وغاب، ثم عاد، رافضاً سلّة شروطنا، فهذا هو السنّي الذي يناسبنا في المنصب، فإما أن يكون رئيس حكومة مُمَثّلاً لطائفته (بالحدّ المعقول) وصاغراً لطلباتنا بالكامل، وإما هذا الهزء. بل إن هذا هو السنّي الذي يريده سعد الحريري لرئاسة الحكومة، طالما أنه خرج هو شخصياً من السباق، بصرف النظر عما إذا كان الخروج خياره الفعلي أو فُرض عليه أو هو مسرحية فاشلة كان يفترض بها أن تكون مناورة سياسية تصبّ في مصلحته، وليس بالضرورة في مصلحة البلد. نواف سلام لا يناسب الحريري، والأرجح أنه لذلك لم يُسمّه في الاستشارات، رغم أنه طرح اسمه خلال التفاوض. فسَلام، رغم أنه لا يملك حيثية الزعامة الطائفية والشعبية، إلا أنه شخصية ذات تاريخ ومؤهلات تمكّنه من نَيل التفاف طائفته حوله، مع جزء كبير جداً من الشارع الثائر، إضافة إلى المجتمع الدولي الذي يعرفه جيداً، وبالتالي هو مرشّح لمراكمة مقوّمات زعامة تنافس الحريري في أرضه. والمؤكد أن لا التيار العوني ولا "أمل" ولا "حزب الله" ولفيفهم الممانع، تناسبه مثل هذه المنافسة للحريري.

والحال إن مكوّنات السلطة، بشقّيها الموالي و"المعارض" (نعم ثمة مفارقة السلطة المُعارِضة الآن)، وبتكليف دياب، أو عدم تسمية شخص وازن بالكثافة المطلوبة (ولو رمزياً لإيصال رسالة)، تقول بصريح العبارة للبنانيين، منتفضين وحزبيين وطوائف: إلى هذه الدرجة نحتقركم، ونستخفّ بأزمات معيشتكم وماليّتكم التي أنقذنا أنفسنا منها قبل اندلاعها، خذوا هذه الإهانة تسلوا بها ريثما ننظم صفوفنا من أجل أن نبقى في مواقعنا.

أما الثورة، بتكتيكاتها الميدانية، وتفرعات نقاشاتها الكثيرة، فيقول لها تكليف حسان دياب: إن استهلاك معيار "تكنوقراط" في مطالب الثورة، من دون التشديد بالقوة نفسها على برنامج عمل الحكومة المنشودة، لإنقاذ البلد من كبوته الراهنة، كان غلطة، أو بالحد الأدنى خطوة ناقصة لزمها إصرار أكبر ودرجة أعلى من التنسيق بين مكوّنات الثورة، إذ جعَل كل حامل لشهادة جامعية وغير منتسب رسمياً إلى حزب أو تيار سياسي، مرشحاً دمية يمكن رفعه كتَلبية هزلية لمطلب الشارع. هذا التكليف يقول إن على الثورة أن تعيد تقييم تكتيكاتها السلمية، وخطابها المطلبي، على مدار الساعة. وهي، وإن كانت تفعل ذلك بالفعل، ككائن حي وحيوي خلافاً للسلطة المحنّطة في أساليبها وخطابها وبطشها، لكنها ربما لم تفعّله بالدرجة الكافية من الوعي الاستشرافي والاستباقي لحِيل هذه السلطة – الخصم الماكر والضارب بجذوره عميقاً في "استابلشمنت" الفساد والاستقواء والتعنت.

وتقول رئاسة البروفيسور أيضاً، إن الثورة بشقها الكرنفالي، على جمال مسيراته المدنية في عيد الاستقلال، وتظاهراته الأهلية والنسائية ووروده وعناقاته وأغانيه، هي مرحلة أصبحت خلفنا. ليس فقط لأن السلطة – الخصم اتخذت قراراً بالحسم العنفي في الساحات والطرق ليلاً، وبتسويف الكارثة الاقتصادية والمصرفية والمالية نهاراً. بل أيضاً لأن عزف الأغنيات المطلبية خفيفة الظل في ردهات البنوك، حيث يصوّر الموظفون المبتهجون، المحتجين، بكاميرات هواتفهم، ما عاد ليأتي بأي نتيجة، إن كان قد حقق شيئاً في الأصل سوى التسلية الثورية. ولأنه قد آن الأوان لخطط وتحركات من نوع آخر، من دون التخلي، للحظة، عن الخيار السلميّ. وهذه الخطط، انطلق بعضها بالفعل، من قبيل العصيان المدني والتمنّع عن دفع الرسوم للدولة، لكنه في حاجة إلى تفعيل وتمدّد وتصعيد حقيقي ومنهجي.

ومهزلة التكنوقراط الذي كُلّف بتشكيل الحكومة، بعد أكثر من 60 يوماً من التظاهرات، وإصابة عشرات المتظاهرين وسقوط شهداء، تقول أيضاً أن بعض النقاش "المدني" يشبهها. فالكلام عن "إعطائه فرصة"، وعدم التحرك خلال الاستشارات "احتراماً" للإجراء الدستوري (شكلاً)، و"تركه يعمل لتتحمل السلطة مسؤولياتها" وتبعات خطواتها، هو ترف ثوري يقارب النكتة السمجة. فلا البلد يحتمل، ولا الناس يملكون الوقت لمثل هذه الاختبارات والتنظيرات المقتطعة من كتيبات طُبعت في بلدان أخرى وسياقات مغايرة، وفوق هذا كله لم تُثبت نجاعتها. وفي كل حال، لم يتأخر الوقت للردّ على هذه الإهانة الحكومية وإسقاطها في الشارع، وإن كان هذا الإسقاط خطوة هدم واحدة في طريق الثورة إلى الوطن المُراد.. ولو في الحدود الدنيا. 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها